قوى العولمة والقلق الإنساني المشروع
على الرغم من كل المخاوف، فهناك جوانب إيجابية لا يمكن إغفالها للعولمة يمكننا تبينها في قوى العولمة الجديدة.. فولادة العولمة ترتبط أشد الارتباط بالثورة العلمية والمعلوماتية الجديدة، التي تكتسح العالم منذ بداية التسعينيات. هـذه الثورة هـي أحد أهم معالم اللحظة الحضارية الراهنة، وهي القوة الأساسية، وليست بالضرورة الوحيدة المسئولة عن بروز العولمة أخيرا . [1]
لقد أصبحت العولمة ممكنة بسبب معطيات هـذه الثورة التي أسست لعالم التسعينيات، ولمعظم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتلاحقة والتي تميز هـذه اللحظة التاريخية الراهنة. الثورة العلمية التكنولوجية هـي التي جعلت هـذا العالم أكثر اندماجا، وهي التي سهلت وعجلت حركة الأفراد ورأس المال والسلع والمعلومات والخدمات، وهي التي جعلت المسافات تتقلص والزمان والمكان ينكمش، وهي التي جعلت التحولات سريعة ومذهلة في سرعتها، وهي التي ساهمت في انتقال المفاهيم [ ص: 145 ] والقناعات والمفردات والأذواق فيما بين الثقافات والحضارات، وهي التي جعلت الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأولى والدولة المهيمنة والمستفردة سياسيا ودبلوماسيا بالشأن العالمي، وهي أيضا جعلت العولمة الاقتصادية والثقافية والسياسية ممكنة، وهي التي نقلت العالم من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وبالتالي دخوله إلى عصر العولمة، وربما لاحقا إلى عصر ما بعد العولمة، كل ذلك أصبح ممكنا خلال عقد التسعينيات بسبب المتسجدات التكنولوجية والتطورات المعلوماتية . [2]
إن الثورة العلمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هـي الطاقة المولدة والمحركة للعولمة، كما أن لحظة العولمة هـي لحظة الاستفادة القصوى من معطيات ونتائج هـذه الثورة، بل إن العولمة والثورة العلمية والتكنولوجية هـما وجهان لا ينفصلان لعملة واحدة وسياق تاريخي وحضاري واحد. [ ص: 146 ]
فالعولمة كالثورة العلمية والتكنولوجية تشير إلى كل التطورات التي مـن شأنها ربط العالم وتوحيـده، وبـالـتـالي إلـغـاء فـكـرة المكـان ومفهوم الزمان. والعولمة كالثورة العلمية والمعلوماتية تتضمن أيضا توصيـل المعلومـات والخدمات الفـورية إلى كـل أرجاء المعمورة وبسرعة الضوء وذلك عبر التجارة الإلكترونية والديمقراطية الإلكترونية والتعليم الإلكتروني والطب الإلكتروني. والعولمة كالثورة العلمية والمعلوماتية هـي التي تقدم السلع والمعلومات والخدمات بأقل الأسعار، بل ومن دون أي ثمن، وذلك كما هـو الحال بالنسبة للكم الهائل من المعلومات والخدمات والتسهيلات المجانية التي تقدم عبر شبكة الإنترنت ، التي تطورت خلال التسعينيات، وتحولت إلى عملاق إلكتروني يوحد العالم، ويجعل التواصل بين الأفـراد يتـم بالصـوت والصـورة وبـسـرعة الزمن الحقيقي. [3]
والعولمة كالثورة العلمية والتكنولوجية هـي التي تحدث حاليا تغيرات راديكالية في الطريقة التي ينظر الناس بها إلى أدوارهم، [ ص: 147 ] وإلى أسلوب التعامل مع بعضهم بعضا، وكيفية التعاطي مع الأحداث القريبة والبعيدة. كل هـذه التغيرات التي تحدث لأول مرة في التاريخ مرتبطة ببروز العولمة، وهي مجرد نتيجة واحدة من نتائج الثورة العلمية والمعلوماتية.
إن العولمة، وكما هـي الحال بالنسبة إلى هـذ الثورة، هـي اليوم في بدايتها، وليس في وسع أحد التنبوء بمضاعفاتها أو تخيل نهاياتها. ومن هـنا نجد الباحث عبد الخالق عبد الله د. عبد الخالق عبد الله [4] يقول: «لقد جددت العولمة الثقة في العلم والتكنولوجيا.. وأكدت ولادة العولمة أن هـذا العصر هـو، وربما أكثر من أي وقت آخر، عصر العلوم والثورات العلمية، فالعلم أثر في هـذا العصر كما لم يؤثر فيه أي عامل آخر. وكل النجاحات والإنجازات التي تحققت للبشرية، وربما كل التقدم المادي والمعنوي الذي تحقق خلال المائة سنة الأخيرة، وبالذات خلال العقد الأخير من هـذا القرن، لم يكن له أن يتحقق لولا العلم الذي أصبح اليوم الحقيقة الأساسية في الحياة، والمحور الذي تدور حوله كل الحقائق الحياتية الأخرى».
هذا القول صحيح إلى حد بعيد، فالعلم الذي نقل البشرية من [ ص: 148 ] طور إلى آخر هـو الذي يقوم حاليا بخلق عالم جديد ولحظة حضارية مختلفة كل الاختلاف عن كل ما هـو قائم حتى الآن. لقد تحول العلم والثورات العلمية إلى قوة من القوى الكاسحة التي تصنع الأحداث وتشكل المستقبل وتعيد ترتيب أولويات الدول والمجتمعات والأفراد. فمن يمتلك هـذه القوة ويحسن توظيف نتائجها الباهرة يمتلك أساسا مصيره، ويعرف كيف يتدبر شئونه، ويتمكن من التأثير في الآخرين، بما في ذلك القدرة على إدارة العالم سياسيا واقتصاديا.
لكن كل المعطيـات تشـير إلى أن العلـم يـزدهر يـوما بعد يوم، وأن انتشاره الواسع سيزداد خلال عصر العولمة. والمعرفة العلمية تتضاعف كما ونـوعـا، ويبـدو أنها دخلت مع عقد التسعينيات مرحلة المعرفة اللامتناهية. ليست هـناك نهاية للاختراعات العلمية أو الإضافـات التكنـولوجـية التي تتـم حـاليـا بـمـعدل اخـتـراع أو اكتشاف جديد في كل دقيقتين من دقائق الساعة الواحدة على مدار السنة ومن دون توقف . [5] [ ص: 149 ]
لكن رغم كل هـذه المستجدات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة فإن العلم هـو في الغالب الأعم في بدايات الاكتشافات العلمية، ذلك أن ما هـو آت من إضافات جديدة سيفوق بكثير ما تحقق حتى الآن. فمن حيث عدد العلماء وعدد الاختراعات وحجم المعرفة العلمية ونوعيتها وتأثيرها على الحياة والإنسان، فإن البشرية ما زالت في البدايات ولا وسيلة لمعرفة النهايات. لذلك فإنه إذا كان العلم قد فرض نفسه على العالم، وكسب الاحترام من الشعوب، فإن احترام العلم للعلم وللثورات العلمية والتكنولوجية سيزداد في ظل عصر العولمة.
إن حقائق عصر العولمة تشير إلى أنه لا يوجد شعب يحترم نفسه ويـود أن يكون له مـوقـع متـقـدم بـين الأمـم الحية والفاعلة، إلا وهو يـدرك أن عـليـه أولا وقبـل كل شـيء الاقـتـراب من العـلم، وأن يأخذ بالتفكير العلمي كأسلوب في الحياة وفي التعامل وفي تسيير شئون الحياة العامة والخاصة.
بل إن مفتاح التقدم والنجاح الآن يكمن في العلم، فالقوة والغنى والتقدم والتحضر تقاس الآن بمقياس واحد، وربما وحيد، هـو الاندماج في الحضارة العلمية، والأخذ بمعطيات الثورة العلمية والتكنولوجية التي تمر بمرحلة جديدة، هـي الثورة العلمية الثالثة، [ ص: 150 ] والتي سبقت إليها الولايات المتحدة الأمريكية التي هـي اليوم مصدر أكبر عدد من الاختراعات والاكتشافات في مجالات تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا الحيوية، وتقنيات الهندسة الوراثية، وتكنولوجيا هـندسة الذرات والجزئيات، وهندسة الفضاء والمركبات الفضائية.
والصدارة الواضحة التي تتمتع بها الولايات المتحدة في كل مجال من هـذه المجالات العلمية والتكنولوجية الدقيقة، هـي التي جعلتها الدولة العظمى الوحيدة في العالم المعاصر، والقادرة على بسط هـيمنتها السياسية على الشأن العالمي، وهي التي جعلت من اقتصادها الاقتصاد الأول على الصعيد العالمي، إلا أن اليابان مرشحة الآن لأن تكون الدولة الثانية التي تسعى للاستثمار والمشاركة الفاعلة في خلق الثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة، والاستفادة من نتائجها وتوظيف تقنياتها في الاقتصاد، وربطها بالقطاعات الإنتاجية والاجتماعية عموما.
إن أبرز جوانب الثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة هـو الجانب الخاص بالتطورات المدهشة في عالم الكمبيوتر، حيث ضاعفت التكنولوجيا من كفاءة الكمبيوتر آلاف المرات، واخترعت أجيالا [ ص: 151 ] كثيرة ذات سرعات عالية، تقوم بعمليات حسابية تحسب بالمليارات في الثانية الواحدة مع صغر حجمها، إضافة إلى التطورات المثيرة في تكنولوجيا المعلومات وتخزينها واسترجاعها بمعدلات وسرعات تتضاعف بشكل أسي.
كما تمت الآن، وكما يقول الدكتور نبيل علي في كتابه «العرب وعصر المعلومات» [6] ، رقمنة كل المعلومات بجميع أشكالها الصوتية، ولجميع الشرائح، وبجميـع اللغـات، والإطـلاع على ما لم يكن بالإمكان الإطلاع عليه في أي زمان، بما في ذلك الإطلاع على كل الموجودات في كل مكتبات وجامعات ومراكز البحوث العالمية. كل ذلك أصبح بالإمكان الحصول عليه بسرعة الضـوء، وأصبـحت متـاحة ومـوجـودة في العـمل والتجـارة والتعليم والتدريب والمنزل، مقدمة حلولا سريعة لمشكلات العمل والحياة العويصة.
كما تتيح تكنولوجيا المعلومات فرصة للأفراد والدول والمجتمعات للارتباط بعدد لا يحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكبلات الضوئية والفاكسات ومحطات الإذاعة والقنوات [ ص: 152 ] التلفزيونية الأرضية والفضائية، التي تبث برامجها المختلفة عبر حوالي ألفي مركبة فضائية، بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت، والتي تربط العالم بتكاليف أقل وبوضوح أكثر وعلى مدار الساعة، ودون قدرة الدول على التدخل أو الرقابة الفاعلة. لقد ساهم كل ذلك في تحويل البيانات والمعلومات والمعارف الى سلع وخدمات مرغوبة، تدر أرباحا تفوق أرباح القطاعات الإنتاجية الأخرى.
لقد تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أهم مصدر من مصادر الثروة، وقوة من القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية الكاسحة في عالم اليوم.
يضاف إلى ذلك المستجدات في حقل الهندسة الوراثية، الذي شهد تطورا مثيرا، حيث تمكن العلماء خلال عقد التسعينيات من تفكيك الجينات الوراثية للكائنات الحية، وبالتالي محاولة الدخول إلى عالم محاولة الخلق الصناعي والمختبري لجميع الكائنات النباتية والحيوانية بما ذلك الإنسان. وتمكن العلماء من القيام بالاستنساخ الحيواني ، كما تمكنوا من تحديد الخارطة الوراثية أو « الجينوم » البشري بأكمله، والتي تحمل كل الخصائص الوراثية، بما سوف [ ص: 153 ] يمكن العلماء من القدرة على القضاء على كثير من الأمراض المزمنة كالسرطان والإيدز وغيـرها، بل والقدرة على تـحسين السلالات بـما فيها البشرية أيضا . [7]
لقد فتحت هـذه المستجدات في الهندسة الوراثية وتكنولوجيا الاتصالات وعالم الكمبيوتر، بالإضافة إلى التطورات في مجال تقنيات الفضاء والطب والفيزياء، والمرتبطة بالثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة، آفاقا معرفية لا نهائية لفهم أدق تفاصيل الكون والحياة والمادة، وفهم مكوناتها وتفاصيلها الدقيقة والغارقة في الدقة، بما في ذلك محاولة فهم نشأة الكون، وبروز الحياة على الكرة الأرضية، وبنية ووظيفة الجزئيات والوحدات الوراثية للإنسان.
ولكن مهما كانت حقيقة العولمة، والقوى التي تعتمل وراءها، إلا أن العولمة ونتيجة لارتباطها بالثورة العلمية والمعلوماتية ستفتح للبشرية آفاقا معرفية وثقافية لا متناهية. كذلك فإنه إذا كانت العولمة تعني التدفق الحر للسلع والخدمات عبر الاقتصادات المفتوحة على بعضها بعضا، فإن بإمكان كل الدول والمجتمعات الاستفادة من [ ص: 154 ] مثل هـذا التدفق لزيادة فرص النمو والرفاهية في كل أرجاء المعمورة، كما أن بإمكان كل الثقافات في العالم أن تستفيد من اقترابها من بعضها بعضا، وأن تسخر التدفق الحر للبيانات والمعلومات والأفكار والمفاهيم لكي تتعرف على اختلافاتها، وتحترم خصوصياتها، وتعزز من التنوع الثقافي العالمي.
أما إذا كانت العولمة تعني بروز نظام عالمي جديد أكثر اهتماما بقضايا البيئة وحقوق الإنسان ، ويتصدى بشكل جماعي لقضايا الانفجار السكاني وتزايد الفقر في العالم، ويجد الحلول للاختلالات الاجتماعية الأخرى، فإن هـذا النظام سيكون حتما أكثر استقرارا وأقل توترا من النظام العالمي القديم الذي انتهى بانتهاء صراع الشرق والغرب، واختفاء التوتر النووي بين الدول العظمى.
إذا كانت العولمة هـي تجسيد لمثل هـذه الاتجاهات الإيجابية، فإن هـذه هـي العولمة ذات الوجه الإنساني، والتي ستجد الترحيب كله من قبل جميع الدول والمجتمعات.
ولكننا نجد بعض الباحثين يثيرون بعض الإشكالات، ويضعون كثيرا من علامات الاستفهام أمام ظاهرة العولمة، حيث إنها ظاهر ة مليئة أيضا بكل الاحتمالات المقلقة. فالعولمة مقلقة إذا كانت [ ص: 155 ] تعني المزيد من التطورات في الهندسة الوراثية وهندسة الجينات ، وتوظيف كل ذلك تجاريا وعنصريا وعسكريا، الأمر الذي يستفز القيم الإنسانية العميقة، التي تبدو مهددة الآن في ظل غياب القيود الأخلاقية على المستجدات في تكنولوجيا الهندسة الوراثية.
كذلك تبدو العولمة مقلقة إذا كانت تعني زيادة توظيف الشركات الاحتكارية لقدراتها المالية والتنظيمية من أجل استغلال ثروات الشعوب وزيادة تغلغلها في اقتصاديات الدول النامية، التي عانت ما فيه الكفاية من الاستغلال والنهب الاستعماري والإمبريالي .
والعولمة مقلقة إذا كانت تتضمن زيادة الفجوة الاقتصادية والحضارية القائمة حاليا في العالم بين الدول الغنية التي تزداد غنى والدول الفقيرة التي تزداد فقرا.
والعولمة أيضا مقلقة إذا كانت تتضمن هـيمنة ثقافية واحدة ووحيدة مهما كانت مغرية ومسنودة بالنجاحات المادية والمعنوية، وقيامها بتهميش الثقافات الأخرى في العالم. [ ص: 156 ]
وهي مقلقة إذا كانت تتضمن احتمال صدام الحضارات وصراع المناطق الحضارية، ودخولها في حروب عنيفة ودامية وربما كانت أكثر دموية من كل الحروب التي شهدها التاريخ البشري.
والعولمة مقلقة إذا كانت تعني « الأمركة » واستفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالشأن العالمي، ونشر نموذجها الحياتي وتعميمه على الصعيد العالمي، وإذا كانت تعني المزيد من اغتراب الإنسان المعاصر الذي بدأ يفقد السيطرة على التحولات الحياتية والفكرية السريعة حتى بمعايير عصر السرعة، ويظهر جهازه النفسي والذهني العجز عن مجاراة المستجدات العلمية والتكنولوجية التي تؤسس حاليا للحظة حضارية جديدة، ولعصر مختلف كل الاختلاف عما كان سائدا حتى الآن.
إذا كانت العولمة توحي بكل هـذه الإيحاءات المقلقة، فهذه هـي العولمة المتوحشة، والتي ستجد الرفض -كل الرفض- من سائر الشعوب.
ويوضح أحد الباحثين ذلك الموقف المتباين من العولمة حين يقول: «إن العولمة تتضمن الكثـير من الفـرص والمخـاطر المتداخلة، ولا شك أن تداخل الفرص والمخاطر هـي التي تؤدي إلى تفاوت [ ص: 157 ] المشاعر والأحاسيس والمواقف تجاه العولمة أشد التفاوت. فالبعض يظهر كل التفهم للعولمة، ويرحب بفرصها المعرفية والاستثمارية الواضحة كل الوضوح، ويدعو بالتالي للانغماس في لحظة العولمة للاستفادة منها ومن معطياتها. والبعض يبدي التخوف من مخاطر العولمة الكثيرة، ويرفض دلالاتها الاستغلالية ومضامينها الاستهلاكية، ويدعو بالتالي للانكماش من أجل حماية الذات الحضارية والهوية الثقافية التي تبدو مهددة من قبل العولمة. والبعض الآخر يشعر بمزيج من المشاعر الإيجابية والسلبية، ويحاول أن يوفق بين الانغماس من ناحية، والانكماش من ناحية أخرى» . [8] إن المطلوب هـو تعايش هـذه المواقف وتحاورها مع بعضها حوارا سلميا ضمن مناخ حر وتعددي وديمقراطي.
ويتأكد لنا هـذا إذا علمنا أنه في ظل آليات الهيمنة العالمية تحولت الثقافة الاستهلاكية Consumer Cultuer، إحدى مجالات تدويل النظام الرأسمالي، إلى آلية فاعلة لتشويه البنى التقليدية، وتغريب الإنسان وعزله عن قضاياه، وإدخال الضعف لديه، والتشكيك في جميع قناعاته الوطنية والقومية والأيديولوجية [ ص: 158 ] والدينية. وذلك بهدف إخضاعه نهائيا للقوى والنخب المسيطرة على القرية الكونية، وإضعاف روح النقد والمقاومة عنده حتى يستسلم نهائيا إلى واقع الإحباط، فيقبل بالخضوع لهذه القوى أو التصالح . [9]
وهكذا تعد العولمة -في نظر كثير من الباحثين- إحدى التحديات التي تقف أمام بناء المجتمعات التقليدية، لأنها تحطم قدرات الإنسان فيها، وتجعله إنسانا مستهلكا غير منتج ينتظر ما يجود به الغرب من سلع جاهزة الصنع، بل تجعله يتباهى بما لا ينتجه، فهو القادر على استهلاك ما لا يصنعه، مما يشكل لديه قيما اتكالية، والتواكل والتطـلع إلى اقتـناء السلع الاستهلاكية التي تتغير يوميا، لا في سبيل التطوير فقط، بل في سبيل زيادة حدة الاستهلاك على المستوي العالمي.
ويعد «تعميم ثقافة الاستهلاك» واحدا من آليات الهيمنة المفروضة على الشعوب والأمم التقليدية، وهو مجال مكمل و«متمفصل» مع أنماط أخرى من التدويل في الإنتاج والمال [ ص: 159 ] والتقنية...إلخ، وتشكلت مؤسسات لهذا الغرض حتى تضمن الفئات الرأسمالية -مديرة الشئون العالمية- تصريف منتجاتها وتوزيعها عالميا وعلى أوسع نطاق. ولعبت الشركات متعددة الجنسيات دورا مؤثرا في ذلك، واهتمت بإنتاج رموز وبنود ثقافة الاستهلاك لتتكامل مع السلع المادية المنتجة.. ولا يختلف ذلك عن استخدام هـذه المؤسسات للعلوم الاجتماعية والسلوكية وتوظيفها في خدمة هـذا الغرض . [10]
وهنا يثار سؤال أساس: هـل العولمة عملية غسيل حقيقية للأدمغة، كما أشار مارتن ولف ؟ ربما يكون الخوف من العولمة يرجع في المقام الأول إلى محاولة إثبات الذات الوطنية، خاصة لدى الشعوب التي عانت من التدخلات الخارجية لفترات تاريخية طويلة، مثل الشعوب العربية والإسلامية.. وربما تكون العلاقة بين الكوني والمحلي هـو لب إشكالية العولـمة والموقف منها. فالعولـمة -كما مر بنا سابقا- ليست ظاهرة جديدة تماما إلا في آلياتها المعاصرة والموجهة عن بعد ومن الخارج. والاختراق الثقافي ليس [ ص: 160 ] أسلوبا حديثا لم تخبره مجتمعات العالم الثالث من قبل إلا في الأساليب العصرية لهذا الاختراق. تتمثل الإشكالية إذن في العلاقة بين الكونية والخصوصية، بين العام والخاص في مجال إنتاج القيم الرمزية.. ويصبح السؤال الأساس، هـو: هـل باتت الثقافة تنهل أسباب وجودها وشخصيتها من مصادر فوق وطنية أو خارج المجتمع الوطني؟ وهل تصبح الثقافات المحلية موحدة على مستوى العالم؟ هـل يمكن أن تكون هـناك ثقافة كونية أم ستظل الثقافات باستقلاليتها النسبية إزاء النظام العولمي الجديد؟ وهل نحن في ركاب العولمة بإزاء ثقافة كونية مقبولة، أم بإزاء ثقافات يمكن أن تتعايش مع الثقافة المعممة [11] ؟
في محاولة للإجابة عن تلك التساؤلات التي تدور معظمها حول عولمة الثقافة، وثقافة العولمة، اختلف الباحثون: فمنهم من يرى في عولمة الثقافة تجردا من الولاء لثقافة ضيقة ومتعصبة إلى ثقافة عالمية واحدة يتساوى فيها الناس والأمم جميعا، تحرر من التعصب لأيديولوجيا معينة، والاتجاه نحو الانفتاح على مختلف الأفكار من دون أي تعصب وتشنج، تحرر من كل صور اللاعقلانية [ ص: 161 ] الناتجة عن التحيـز المسبق لأمة أو ديـن أو أيديولوجـيا بعينـها، وتبني عقلانية العلم وحياد الثقافة . [12]
ويذهب فريق آخر إلى أن عولـمة الثقافة لا تلغي الخصوصية، بل تؤكدها، حيث إن الثقافة هـي «المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عند نظرة هـذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده»، ومن ثم فلا بد من وجود ثقافات متعددة ومتنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية أو بتدخل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة . [13]
ومهما كان الـموقف من العولـمة إلا أن هـناك حذرا شـديـدا عند التعامل معها.. فآثارها لم تتوقف عند تكوين مستوى اقتصادي كوكبي، بل أدى تشكيل هـذا النظام بآلياته المستحدثة إلى نتائج أخطرها ثقافية، حيـث غيـرت من طابع الشخصية القومية، أو ما يسميه «أريك فروم» بـ «طابع الشخصية المجتمعية»، بل وتشكل عولمة الإعلام والاتصال تهديدا للتعددية الثقافية، وطمس [ ص: 162 ] الهويات الثقافية للشعوب، وقد ساعد على ذلك حالة الثقافة في بعض المجتمعات الأقل تطورا.. فالثقافة العربية مثلا تعاني من ازدواجية نتيجة احتكاكها مع الثقافة الغربية بتقنياتها وعلومها وقيمها الحضارية، بالإضافة إلى التمايز الواضح بين ثقافة النخب وثقافة الجماهير.. والنتيجة، استمرار إعادة متواصلة ومتعاظمة للازدواجية نفسها، ازدواجية التقليدي والعصري، ازدواجية الأصالة والمعاصرة، في الثقافة والفكر والسلوك . [14]
ربما استطاعت العولمة أن تخترق الحواجز، وبدلت الكثير من الأفكار والمفاهيم والمسلمات القديمة، في مختلف مجالات الحياة، وزادت من شبكة الاتصالات والمواصلات والاعتماد المتبادل، وفي الواقع سهلت العولمة الاتصال بين الناس، منذ اختراع العجلة إلى اختراع الإنترنت ، إلا أنها حتى الآن لم تستطع اختراق جدار الهوية والنزعات القومية أو الدينية الاختراق الكافي، حتى وإن كانت أكبر دولة تدعو إلى العولمة وتضم أكبر جاليات تعيش على أرضها منذ [ ص: 163 ] عقود، بعضها منذ أيام الحرب العالمية الأولى -وهي الولايات المتحدة الأمريكية- إلا أن تلك الجاليات لا تزال تعيش في أحياء متميزة تتمسك بالكثـير من عاداتها وتقاليدها وتحاول إبرازها في كل مناسبة.
يقول محمد عابـد الجـابـري : «إن الولايـات المتحدة الأمريكية هـي من أكثـر البـلـدان التي تعيـش هـاجـس الهـويـة، لـقـد زرت هـذا البلد قبل سنتين في إطار ما سمي بـ «الحوار العربي الأمريكي»، كنت واحدا من أعضاء وفد عربي يمثل الأقطار العربية، كانت لنا اتصالات ومحـادثات واسعة وغنية بجهات مختلفة، الجـامعية وغير الجامعية، من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، من سياتل شمالا إلى الحـدود المكسـيـكيـة جـنـوبا، وقـد لاحـظـت في جميع هـذه المناطق أن لفظ «تراث» يثير عندهم شجونا، وأن كثيرا منهم، إن لم يكونوا جميعا، مسكونـين بـهاجـس إبـراز شـيء اسـمه: التراث الأمريكي» [15] [ ص: 164 ]