الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

ظاهرة العولمة (رؤية نقدية)

الدكتور / بركات محمد مراد

العولمة.. هـل تفرض نفسها؟

إذا تفحصنا مفهوم «العولمة» بدقة سنجد أنه مفهوم دال على نظام جديد للعالم في دور الإنجاز، ينظر إليه -من الزاوية الاقتصادية- على أنه قمة التطور التي وصلت إليها الرأسمالية ، حيث تسعى العولمة إلى أن تستبدل برأس المال الوطني رأس المال العالمي، وما يترتب على ذلك من انقلاب جوهري في شبكة العلاقات التي تربط الإنسان بواقعه وبالآخر من جهة، وبتاريخه وميراثه الثقافي أو الحضاري بصفة عامة من جهة أخرى.

لقد استفاضت العولمة، أو استفاض الكلام عنها، وعقدت الندوات لمناقشتها وتحليلها، كما خصصت لها أعداد في الدوريات أو «ملفات» خاصة بها، ولكننا، وكما يؤكد على ذلك باحث معاصر [1] : «نخطئ إذا نحن تصورنا أن الاتجاه نحو العولمة لم يبدأ إلا بالأمس القريب، حيث كان سقوط النظام في الاتحاد السوفيتي إيذانا بالتوجه نحو نظام جديد للعالم يكون بديلا منه ومتفردا على الساحة، وعلى وجه التحديد بالرأسمالية الأوربية في [ ص: 71 ] حركة تناميها على مستوى الأسواق الأوروبية الوطنية، ثم خروجها من حدودها الوطنية إلى الأسواق العالمية في المستعمرات أو في العالم الثالث، للسيطرة عليها من خلال الشركات ذات الصفة العالمية».

وقد أصاب الباحث فيما ذهب إليه، خاصة وأن الذين يرصدون هـذه النشأة وهذا التطور، يؤكدون على نحو قاطع دور الشركات ذات الطابع الكوني في دعم هـذا النظام، في الوقت الذي يدعم فيه النظام نفسه تلك الشركات، فالمصلحة مشتركة بين الطرفين.

وقد شهد الواقع العالمي الجديد، الذي أخذ يتنامى خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، تقدما هـائلا في مجال تكنولوجيا الـمعلومات ، وما زال ينمو حتى اليـوم، وبـمعدلات غير مسبوقة في سرعتها، فكان التقدم في هـذا المضمار داعما لدعوى العولمة، بل لعل دعوى العولمة لم تبرز في أي زمن مضى ولم تفرض لنفسها حيزا في شتى مجالات الفكر الإنساني، الاقتصادي والسـياسـي والاجتـمـاعي والثقافي بعـامة، عـلى نحـو ما تحقق في العالم في تلك الحـقبـة. [ ص: 72 ]

ومـن هـنـا يذهب الدكتور «عز الدين إسماعيل» [2] إلى أن العولمة وإن تجلت في زمننا الراهن في ميادين الاقتصاد والتجارة والسوق والمال...إلخ، فإن ما تحقق من تقدم تكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلومات، قد مكن الشركات الرأسمالية العالمية المتعددة الجنسيات من تحقيق أهدافها التسويـقيـة، ورفـع كفـاءتها في نوعية إنتاجها، وفتح أسواق جديدة لها.

ومن أجل هـذا لم تبخل هـذه الشركات على مراكز البحوث التكنولوجية بما يلزم من مـال في سبيل تحقيق أهدافـها العلـميـة، لا من أجل تطور العلم أو المعرفة الإنسانية في ذاتها، بل من أجل الكشف عن تكنولوجيا جديدة تدعم القدرة التنافسـية لـدى هـذه الشركات. والدول الصناعية الكبرى التي تحتضن هـذه المعرفة التكنولوجية، قد تسمح بخـروجـها إلى بلدان العالم الثالث، ولكن في شكل منجزات تدر عليها الأرباح الطائلة، دون أن تكشف من هـذه الأسرار إلا ما تم تجاوزه ولم يعد له دور على مستوى المنافسة والاحتكار.

والأمر -لدى غير المتفائلين بالعولمة- لا يقتصر على التقدم [ ص: 73 ] التكنولوجي الذي تظل مقاليده بأيدي الشركات والمؤسسات الكبرى المهيمنة، بل يمتد إلى مستويات النمو الاقتصادي التي تتفاوت تفاوتا حادا بين بلدان العالم على نحـو يشكك في مدى ما يقال من أن العولمة ستعم فائدتها آخر الأمر كل بلدان العالم، حتى ما كان منها واقعا في دائرة الفقر المدقع.

هذه العولمة إذن تكرس حضارة جديدة، تختلف اختلافا كبيرا عن كل ما عرفه العالم في تاريخه الطويل من حضارات. ولعل أبرز ما يميزها أنها تسعى إلى انتزاع الإنسان من انتمائه الأصلي، وتعمل على تغييب وعيه بالتاريخ من جهة أخرى.

وليس من باب المصادفة أن يكون بروزها ونموها على نحو مطرد، وامتدادها إلى معظم آفاق النشاط خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، متزامنا مع استفاضة الكلام عن الاتجاهات بعد الحداثية في الممارسة «الإبداعية» وفي النظر «الفلسفي النقدي» بالعلاقة بين الأفقين: أفق العولمة وأفق ما بعد الحداثة، والعلاقة ملحوظة، بل إنها تجاوزت مستوى التزامن إلى مستوى التداخل والتفاعل، إن لم نقل التطابق. [ ص: 74 ]

والذي يدعم لنا هـذا أننا نجد أحد الباحثين في العولمة [3] يدلل على صحة هـذا بأن: أصحاب الاتجاه الأخير الذي بدأ مع تسعينات القرن الماضي، بزعامة لندوا Landow في أمريكا لدراسة ما يسمى بالنص الشامل أو النص الإلكتروني Hypertext هـؤلاء كانوا قد تأثروا بجملة من أفكار ما بعد الحداثة التي كان «رولان بارت» و«جاك دريدا» وغيرهما قد طرحوها، خصوصا فيما يتعلق بفكرة النص المفتوح وانتشار المعنى بلا حدود، ودور القارئ في إنتاج النص...إلخ.

إن العاملين في هـذا الحقل قد اتسع نطاقهم، فصارت لهم مواقع مختلفة على خريطة العالم الجغرافية، ومواقع نشطة من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية المختلفة.

وهكذا يصبح نص ما بعد الحداثة الشامل أو الإلكتروني نصا ينداح في العالم بأسره، ويخترق الحدود والحواجز، حتى ليصبح عالم النص هـو نص العالم.

ومع ذلك سيـبقى السـؤال دائـما: من صاحب الصوت الفاعل -إن لم نقل المهيمن- في هـذا النص؟ [ ص: 75 ]

لقد دخل النص أخيرا في عالم التكنولوجيا وتم اعتقاله لحسابها، ولا شك في أن من يملك التكنولوجيا سيكون هـو القادر على الدخول إلى عالم النص، والإسهام في إنتاجه المتجدد.

وهكذا نرى أن « ما بعد الحداثة » Post-modernesim ليس مجرد اتجاه أدبي أو ثقافي، بل هـو إطار فكري عام، وأن عولمة الاقتصاد أو التجارة أو السياسة أو حتى الثقافة يتوافق كل التوافق مع هـذا الإطار، إن لم يتطابق معه، كما سبقت الإشارة. [ ص: 76 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية