الخاتمة
يرمي نقد العولمة، بوصفها نظاما شاملا في طور التكوين، إلى تقويم اختلالاتها وعيوبها، ولاسيما من جانب المشتغلين بها وواضعي آلياتها. وقد يكون من حسن طالع الفكر الليبرالي أنه يستخدم سلاح النقد ومنجزات الديمقراطية ، ليعيد إنتاج آليات السيطرة الرأسمالية ونظام السوق. وبصرف النظر عما تكشفه هـذه المقاصد من حقائق، وخصوصا حقيقة تحويل الفكر الديمقراطي إلى أيديولوجيا خادعة ومموهة، فإن استخدام هـذا السلاح سيفي على ما يبدو، بالأغراض التي يرنو الفكر الليبرالي إليها.
فإذا كانت التكنولـوجيا واقـعـا يؤسـس لـحياة جديدة للبشريـة، فهي أيضا أيديولوجيا، لأنها تجعل من سيرورتها وتقدمها والتهامها لمصادر الثروة قوة ضارية للإقناع والتأهيل. وستبدو حركة السوق وفقا لهذه السيرورة إيجابية في أذهان الناس، حيث يصبح لعلم التكنولوجيا قوة القانون دائما، وكثيرا ما يذهب الليبراليون إلى الاحتماء بالأسباب التقنية لإخفاء المعضلات الاجتماعية أو الخيارات السياسية المثيرة للجدل.
إن منطق المنظومات الجديدة، ومنها المنظومة الاقتصادية، يمنع توجيه الاتهام إلى انحرافاتها. وعندما يدينون (خلل الشغل) فإنهم [ ص: 185 ] يعنون بذلك الدعوة إلى مزيد من التكنولوجيا للسيطرة على الخلل. وهكذا تركز أيديولوجيا التكنولوجيا عقول الناس على «كيف؟»، لكي تحجب السؤال المخيف «لماذا؟».. ومن هـذا القبيل، أن أصحاب هـذه الأيديولوجيا بدلا من التساؤل عن أسباب العنف وعن آثاره في التلفزيون، يظنون أنهم يحلون المسألة باختراع «برغوث إلكتروني» يتيح ترميز المشاهد المؤذية، كما أنهم يعهدون بمقاليد الأمور إلى عبقرية أصحاب الاختصاص، لأن أهم آثار الخطاب التقني أن يخرس من هـم ليسوا من ذوي الاختصاص، أي أكثرية المواطنين، سواء جاء الخطاب من فني عادي أو أكبر الخبراء . [1]
لقد أنتج التقدم «التكنوـ إلكتروني» خطابه الموازي، فكان ذلك ضروريا لإعادة إنتاج مفاهيم أكثر تطابقا، والوثبة التي حققها رأس المال في طوره المتقدم. والمفارقة هـي أن آليات السيطرة الجديدة تنطوي على بعد ثقافي - فكري تمارس من خلاله عملية إقناع مباشرة وغير مباشرة، تحجب كل احتمال فعال للتغيير والممانعة.
فالتقدم «التكنوـ إلكتروني» دخل دخولا وشيجا في حياة المجتمعات، وصار حاجة يستحيل الاستغناء عنها بيسر. وأكثر من هـذا، فقد غدا التشكيك بهذا التقدم بمثابة هـرطقة، لا سيما وأن ثورة الاتصال باحتيازاتها المختلفة فتحت الأبواب المغلقة، وبدا وكأن العالم [ ص: 186 ] الجديد يقدم هـدية لا تضاهى إلى حرية الفرد المعاصر. ويبين المفكر الفرنسي المعاصر « فرانسوا برون » أن مثل هـذه المفاهيم تجعلنا نقبل بسهولة مشاريع لا محدودة لبناء طرق جديدة. وهي تفضي إلى إطلاق شعارات ينبغي لعشاق الحرية الفرار ذعرا من معانيها: مستقبلكم يمر عبر الطريق الفسيحة، فهل هـناك ما يدهش إذا تمكنت «طرق المعلوماتية الفسيحة» من فرض نظامها المشبوه بفضل سحر الاستعارة والمجاز [2] ؟!
لا يكتفي «برون» بتوصيف الألم الناجم عن المشهد العالمي، فهو يستحضر مقولة الزمن ليبين درجة الانضغاط التي تعيشها المجتمعات والأفراد جراء «الجمع الإكراهي» الذي تقوم به العولمة.. فيرى أن السرعة واقع، وهي أيضا أيديولوجيا لا تنفصل عن أسطورة التقدم، فكل ما يتحرك في الدنيا وكل ما ينطلق بسرعة يتقدم، وكل ما يتحرك أمر إيجابي، وسيحيق بك الشر الأكبر إذا سبقوك أو تجاوزوك. ولذلك تقوم غالبية المباريات على أساس السرعة، والسرعة ضرورية في المجالات كافة، فالسياسي الذي يعد الناس بالانطلاق بسرعة أكبر وإلى مدى أبعد يخطئ تلقائيا بالهتاف، دون أن يكون مطالبا بأن يحدد المسار بوضوح. حتى ذلك السياسي الذي يدين المجتمع «ذا السرعتين» [3] فإنه [ ص: 187 ] يحتفظ ضمنيا بمفهوم السرعة كمعيار قيمة. ويؤدي دوار السرعة بشكل طبيعي إلى قبول التطوارت المعاصرة كلها دفعة واحدة، فنقول: يجب علينا الركض والالتحاق بالركب، ثم ركوب القطار وهو يتحرك. إن عبارة السرعة، كما يعبر الكاتب الفرنسي «تولد إلى ما لا نهاية نفاد الصبر للوصول إلى التبعية».
حين تنتقد العولمة نفسها، فهي تتيح بنقدها سلاحا ناعما وأخلاقيا للاستقواء على عيوبها، ولتستأنف ارتحالها المتجدد في فضاء الاستلاب اللامتناهي... ومن المؤكد أن وفرة الخطابات التي نلمحها الآن وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين، هـي علامة أخرى على التعددية التي تميز المشهد النقدي في كل مكان.
وآية ما نراه من تهاوي المركزية الأوربية الغربية في خطاب النقد الأدبي والفلسفي الحالي، بعد أن غربت شمسها نهائيا عن العلوم الإنسانية مع كتاب سمير أمين «التمركز الأوروبي نحو نظرية للثقافة» عام 1988م، وانكسار الخطاب الكولونيالي بالخطاب النقيض الذي يصوغه نقاد العالم الآخر، حيث تتألق أسماء: إدوارد سعيد ، وهومي بابا ، وإعجاز أحمد وغيرهم، وهي أسماء يكتب أصحابها في العالم الأول مؤكدين حضورهم في هـذا العالم الأول بوصفهم منتمين إلى حضارات وهويات مختلفة، ومدارس فكرية متعددة، يجمعهم التمرد على الخطاب المركزي في أي شكل من أشكال الكتابة، بحثا عن عوالم أخرى تؤكد التعددية الإنسانية. [ ص: 188 ]
لقد أسهمت الآلة الإعلامية الرأسمالية في الترويج للعولمة على أساس المزايا التي ستحققها، وراح هـذا الخطاب يروج لها باعتبارها العصا السحرية التي ستمكن دول الجنوب -ومن بينها دول العالم الثالث العربية والإسلامية- من التخلص من المستويات المتدنية لتنميتها، وتصحيح اختلالاتها الهيكلية، وتمكنها من اللحاق بركب التقدم والعصرنة، وتمكنها من الحصول على الاستثمارات الأجنبية، والوصول إلى أسواق الدول المتقدمة وولوج الأسواق العالمية، وتزايد فرص الوصول إلى الثقافة الحديثة، والحصول على المعلومات والخبرة الإدارية المتـقـدمة في التـنـظيم والإدارة، فـضـلا عن صنـاعة العصر من الإلكترونـيـات الحديـثة. وراح هـذا الخطاب يجعل من العولمة طريقا لا مفر منه، وعصا لا بد من التوكؤ عليها لدخول أزمنة القرن الحادي والعشرين.
وهكذا وضعت موجـة العولـمة بآليـاتها ومؤسـساتها ومـشـاريعـها -كما يقول أحد الباحثين [4] - في عبوات محلية جيدة الصنع والإخراج، وراح هـذا الخطاب الأيديولوجي يسوق العولمة على أساس التوجهات التي تسرع التنمية وتوسع نطاقها ودائرتها.. وهكذا اخترقت الآلة الإعلامية للعولمة الممرات الضيقة لكثير من الاقتصادات، على أساس حسابات اقتصادية قصيرة الأجل، ضيقة الأفق، ذات أبعاد [ ص: 189 ] ومكاسب محدودة ومجردة.
لا شك أن هـذا الخطاب في الوقت الذي يتكلم فيه عن موجبات الاندماج بالسوق العالمية، تجده صامتا إزاء الاندماج العربي داخل الاقتصاد العربي.. إذا كانت بعض الاقتصادات العربية والإسلامية مقننة بموجبات الاندماج بالسوق العالمية على أساس المزايا التي يقدمها هـذا الإنتاج، ألا يكون من الأجدر الاندماج أولا بالسوق العربية، وتحقيق مكاسب الاندماج بالسوق العالمية على أساس عربي جماعي، بدلا من قطري فردي؟
وعليه فإن الخطاب الاقتصادي العربي المعاصر، كما يؤكد على ذلك الباحث د. حميد الجميلي [5] ، مطالب بتحصين المحتوى الاقتصادي العربي لكي يتمكن من بناء أمنه الاقتصادي، قبل الحديث عن موجبات الاندماج بالسوق العالمية.. ومطالب كذلك بالحفاظ على سلطة القرار الاقتصادي العربي، ومقاومة السيادة الاقتصادية الغربية، والحد الأدنى من الثوابت القومية، بدلا من التعلق بعالم السيادة الكونية. كما أن هـذا الـخطاب مطالب بعدم الوقوع في فخ العولـمة وما يروجه خطابها من موجبات الاندماج بالسوق العالمية.
ولست من الذين يطالبون بدفن الرءوس في الرمال وتجاهل العولمة، [ ص: 190 ] ولا من القائلين بإمكانية مواجهتها بالعنف والتمرد، ولست بالطبع من المستسلمين الداعين إلى «ركوب القطار» قبل أن يفوت الأوان، بل أنا من القائلين بضرورة المواجهة الإيجابية لتحديات العولمة.
ففي الميدان الاقتصادي - الاجتماعي تتلخص تلك المواجهة الإيجابية في الحفاظ على المصالح الوطنية، العربية والإسلامية، والاستمرار في دعم الإنفاق الاجتماعي، ومنع تدهور أوضاع الفئات الفقيرة والمتوسطة.
ولتحقيق ذلك لا بد أن تكون بلداننا العربية والإسلامية حرة في تحديد خياراتها الاقتصادية - الاجتماعية، أي أن تكون حرة في تحديد القطاعات الأساسية التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني، وبالتالي أن تحدد هـي، وليس الجهات المقرضة أو المانحة، وليس الشركات متعددة الجنسيات ، ميادين الإنتاج التي لا بد لها من تكثيف رأس المال واستخدام تكنولوجيا متقدمة، وتبحث بالتوازي مع ذلك عن ميادين الإنتاج التي يمكن تطويرها كما ونوعا، اعتمادا على تكنولوجيا أبسط، وتستوعب أعدادا كبيرة من الأيدي العاملة.
ولهذا لا بد أن تكون بلادنا حرة في إبداع «التكنولوجيا الملائمة» [6] ، كما يجب أن تكون بلداننا العربية والإسلامية حرة في [ ص: 191 ] تحديد آليات «الإصلاح الاقتصادي» ووتائره ومجالاته، ولا بد من وقف تدهور أوضاع الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتوفير الموارد المالية اللازمة للسير في عملية تنموية موجهة لصالح جميع مواطنيها، وهذا لا يكون إلا باتخاذ خطوات حازمة لوقف الفساد والهدر والتمظهر والاستهلاك التفاخري، وغير ذلك من قنوات تسرب الأموال، لتنجح في عملياتها التنموية.
هذا من النـاحية الاقتـصادية، أمـا من النـاحـية الثقافية والفكرية، فلا بد للفكر العربي والإسلامي المعاصر من أن ينير الطريق للحركة الإسلامية المعاصرة.. ولا بد لكي يكون معاصرا حقا أن يقرر موقفه في صراحة وجلاء، دون غموض أو تمييع أو تحفظ بالنسبة للقضايا التي تعتبر من معالم الفكر الأساسية في الحياة المعاصرة، وعلى رأس هـذه الأساسيات «حقوق الإنسان» أو «كرامة الإنسان»، من ناحية تقرير المبادئ والقواعد أولا، ومن ناحية مدى تطبيقها عالميا، ومؤازرة كل ضعيف حتى يؤخذ الحق له، ومواجهة أي قوي ظلوم غشوم حتى يؤخذ الحق منه.. وأنصع وأقطع ما يكون دليلا على مكان حقوق الإنسان في العقل المسلم المعاصر وفي عمل المسلمين المعاصرين بالنسبة للعالم الذي نعيش فيه، هـو ما كان يقرر الحقوق ويحميها بالنسبة للمرأة وبالنسبة لغير المسلمين. [ ص: 192 ] وصورة الإسلام -كما يذكر أحد الباحثين [7] - في العالم المعاصر إزاء هـؤلاء وتلك، صورة مختلطة ملتبسة مشوهة، نتيجة واقع الـمسلمين وما يسوده أحيانا من تقاليد ليس للإسلام فيها نصيب، ونتيجة غموض بعض الإسلاميين -المتعمد وغير المتعمد- عند عرض موقف الإسلام الصحيح الصريح من هـذا الخليط والمسخ، ما بين نزعة اعتذارية تبريرية أو خطابية عائمة، أو خلط بين المعاملة الحسنة والمساواة في أبعادها المتكاملة من حيث المبادئ والقانون من جهة، ومن حيث التطبيق والسلوك العملي من جهة أخرى.
والمعاملة الحسنة والمساواة لا يختلطان ولا يلتبسان في العقل المعاصر، والظن بأنهما مترادفان إضاعة للوقت والجهد في غير طائل، وكأن المحادثة تجري بلغتين مختلفتين! ولا يعني هـذا إهدار أهمية الـمعاملة الـحسنة والرصيد النفسي الأخلاقي الخير في الإنسان، فهذا ما جعل الحياة محتملة مقبولة إلى درجة مناسبة مع غياب المساواة.. وغياب النوايا الطيبة والنزعة الخيرة، ضيع فعالية النصوص القانونية في لائحة الحقوق «Bill of Rights» في دستور الولايات المتحدة، فاحتاج المستضعفون إلى حركة الحقوق المدنية في أواخر الخمسينيات بعد قرابة قرنين من تقرير تلك الحقوق.. وما زالت وقائع إهدار تلك الحقوق، [ ص: 193 ] التي لم ترسخ بعد في أعماق الناس الشعورية وما وراءها والعقلية والأخلاقية، تتوالى في مختلف أرجاء البلاد إلى أيامنا هـذه!
وإنما لا بد أن يظاهر الضمير والسلوك الأخلاقي الفردي والاجتماعي النص القانوني الصريح القاطع، الذي يعينه الضمير والسلوك على معرفة الـحق وضـمانـه، ومـعرفة الباطل ومنعه بكل سبيل مشروع.. كما أن الرصيد النفسي الأخلاقي يسد المنافذ قدر الإمكان من التلاعب بالنص القانوني والتهرب منه أو إساءة استعماله.
ومن ثم ينبغي أن يقترن تقرير حقوق الإنسان بالنسبة للمرأة وبالنسبة لغير المسلمين بتطبيقها الحاسم الشامل بين المسلمين أنفسهم، في مجتمعاتهم وجماعاتهم ودولهم، حتى لا يكونوا ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ويقولون ما لا يفعلون، والحق ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11).
والديمقراطية تكاد تكون أنجع وسيلة مطروحة على مائدة الفكر والممارسة السياسية المعاصرين، وليس من الضروري عقلا وواقعا أن يكون المؤمن بضرورة الوسائل الديمقراطية، لتحقيق حقوق الإنسان وكرامته، مؤمنا بجذورها الفلسفية وظروفها التاريخية، وما اقترن بذلك من نزعات إزاء الدين كقوة غيبية كبرى أساء استغلالها سدنتها من كهنة الدين وطقوسه، فهناك ملايين من الديمقراطيين المؤمنين بالله [ ص: 194 ] ومنهم المتدينون الملتزمون في أوروبا وأمريكا، وهؤلاء لا يرضون عن النزعة الفردية الجامحة ولا عن الاستغلال الرأسمالي غير الإنساني، الذي لا يؤمن إلا بالمنافسة ويغفل عن العاجزين أصلا عن دخول السباق، ويؤمن هـؤلاء بمسئولية القادرين إزاء المحرومين، لا سيما وأنهم قد يكونون مسئولين كأفراد عن حرمان المحرومين. وكثير من انتقادات الديمقراطية في الغرب وممارستها قد صدر عن مصادر غربية، كفلت الديمقراطية حقوقها في الرأي والتعبير.
وجدير بالذكر أنه في مراحل سابقة كانت الديمقراطية ترفض في الفكر الإسلامي لأن النظر لها كان في العموم والإطلاق، باعتبار أنها فلسفة ومذهب اجتماعي يفوض كل شيء للشعب بما في ذلك التشريع. أما اليوم فإن الديمقراطية تخضع لتشريع الفكر الإسلامي لـمعرفة مكوناتها الـجوهرية، «والنتيجة القبول ببعض تلك الـمكونات لا كلها، كالتعايش السلمي بين الجماعات، وتبادل السلطة بشكل سلمي، وأخذ رأي الشعب في الانتخابات، والترشيح، وحقوق الإنسان، والفصل بين السلطات، وما أشبه. وهذا بدوره يكشف عن تحول منهجي في الفكر الإسلامي المعاصر» الذي كان يغلب على بعضه الإطلاقية سابقا ويقترب من النسبية اليوم . [8] [ ص: 195 ]
وثمة قضايا أخرى ذات أهمية كبرى نأمل أن يتبلور الفكر الإسلامي إزاءها في هـذا القرن، بعد أن تطاول الزمن ولم يتحقق بعد المأمول بصورة مقنعة، مثل: «الأصالة والمعاصرة»، و«الهوية»، و«الوسطية»، و«الثابت والـمتغير»، وما يـمكن أن تكون عليه العلاقات الدولية للمسلمين فيما بينهم ومع غيرهم في العالم المعاصر بين المثالية والواقعية.
وهناك مفهوم لا بد من توضيحه وهو وعي الغرب، فلا يمكن فهم العولمة دون فهم متقدم للغرب، ولا يمكن فهم الغرب إذا لم نسلم أنه ظاهرة جدلية تحتوي متناقضات مختلفة ومتشابكة في آن واحد وبصورة مكثفة. فليس الغرب معنا واحدا، ومن العجلة إصدار حكم نهائي وتعميمي نتعاطى من خلاله مع الغرب، فنراه استعماريا فقط، أو مدنيا فقط، هـذه النظرة لن تسدي لنا أية خدمة.. إن ما نحتاجه الآن هـو أن نقرأ الغرب بتمعن قراءة معرفية، تستكشف الغرب وتجعله واضحا فكريا أمامنا.. سواء اعتبرنا الغرب نظيرنا المختل، أو عدونا اللدود والتاريخي، فإن فهمه واستيعابه هـو ارتقاء في المواجهة.
إن مواجهة (الآخر) بالعلم والثقافة، أي المواجهة بالمعنى المعرفي، تؤهلنا لانتقال تلك المواجهة إلى ساحات أرحب، لنطرح أسئلة ذات علاقة بأهم التحديات المباشرة لنا.. وبمعنى آخر، أسئلة المشروع الإسلامي الذي نأمله لواقع المجتمع والحياة، والذي كنا وما زلنا نحلم به كإنجاز إنساني عالمي. [ ص: 196 ]
فالمواجهة بالمعنى المعرفي، تعني أن نضع المقولات والمفاهيم موضع النقد والتحليل والتفكيك، من أجل فهمها وإعادة إنتاجها، فعندها يتولد الوعي بالذات وبالآخر. إنها اللحظة التي ينهض فيها العقل، معلنا استقلاله، وقدرته على تمثيل نفسه، ومنبئا عن انكسار المركزية الأوروبية والرأسمالية الغربية، أمام تعددية المراكز خارج نطاق سيطرة المشروع الأوروبي واللحظة الغربية.
لقد ولى زمن الانغـلاق بحـجة الـحـفـاظ على الذات والـهويـة، وما زالت التجربة المتمثلة أمامنا تثبت لنا يوما بعد آخر أن المجتمعات كلما انغلقت على نفسها وتجربتها أكثر، كلما كانت مناعتها أضعف.. وتتضاعف المشكلة عندما يكون انتقال المعلومة واختراقها للمجتمع يتم بصورة تتجاوز إرادة التعفف من تلقيها، عندها سيكون التأثير أبلغ وأشد وطأة، فثمة مسلمة لا مجال للجدل فيها، هـي أن الانغلاق على الذات أمر متعذر اليوم نتيجة للتقدم الهائل في تقنية الاتصال، فالمساحات الجغرافية الشاسعة، لم تعد تمثل عائقا أمام معلومة تنطلق من أي مركز مدني في العالم.
حتى هـذه اللحظة ورغم التحديات التي يواجهها عالمنا، نتيجة لاحتكاكه المباشر بمنجزات الغرب وثقافته، لم نستطع أن نرسي قاعدة يمكن أن تؤسس لعلاقة متكافئة مع العالم الغربي.. فرغم دعوات الحوار المتكررة، ومن أكثر من جهة، إلا أننا ما زلنا مسكونين بأحد هـاجسين: [ ص: 197 ] الانغلاق والانكفاء بما يحرمنا الاستفادة من منجزات العصر، أو الانفتاح الأقرب إلى الذوبان في (الآخر) وتمثل قيمه، وكلا الموقفين لن يعودا علينا بأي إنجاز، رغم أن بعض المواقف وجدت ما يسندها على أرض الواقع.
وكما يقول الباحث أحمد شهاب [9] : «إننا نمتلك ذاكرة مثقلة بأحداث السلب والاستعمار والتسلط والطرد، وكنا لا نزال نعيش حالة استفزاز من غرب يريد سلبنا هـويتنا وتشكيلنا الثقافي والفكري، فالعولمة ضمن خطاب النظام الغربي جعل العالم تابعا لآلة الإنتاج الاستهلاكي بشتى توجهاته، دون النظر في طبيعة الاحتياجات الأولية للشعوب الأخرى.. هـذه الأجواء لا تسمح بقراءة معرفية وموضوعية للغرب، حتى عندما جئنا إلى زمن جديد، وأردنا أن نقرأ الغرب بموضوعية، صحونا على مدونة ضخمة من الشبهات، أقحمتنا في صراع متواصل مع (الآخر) الغربي».
والذي يؤكد رؤية الباحث السابقة أن هـذه الحقائق دعمت الموقف المعادي لأي حوار أو استفادة أو انفتاح على الغرب، وأغلقت أمامنا إمكانية الاستفادة من إيجابيات الحضارة الغربية، والتواصل المتكافئ معها. والذي عزز من هـذ الموقف أكثر، دعوة العلمانيين الذين انبهروا [ ص: 198 ] بالتفوق الغربي، إلى الانصهار في المنظومة على المستوى الفكري والفلسفي، وتمثل الغرب على المستوى السياسي باعتبارها صك القبول. فهذه الدعوات أشعلت فتيل الصراع مع الهوية الإسلامية، ووجد المفكر الإسلامي نفسه في موقف الدفاع عن المقدسات الدينية، وصيانة الهوية الإسلامية، وعدت تلك من أولويات الفكر الإسلامي.
وقد تنتقد بعض الفتاوى والآراء، لا سيما التي تتصف بالتشدد من قبل بعض العلماء والكتاب الإسلاميين، ولكن يجب أن نضعها ضمن سياقها الزمني الطبيعي، فلا يمكن لأي أمة من الأمم أن تقبل الذوبان في (الآخر)، أو أن تتخلى عن هـويتها ومصدر وجودها. نعم إننا مقتنعون بأن حالة الدفاع عن الذات ورد الفعل ليسا قادرين وحدهما على فتح آفاق جديدة في الفكر والممارسة، ويجب أن يكون للفعل وبناء الذات، والانطلاق من رؤية معرفية في قراءة الذات والواقع و(الآخر)، مكان متميز في الخطاب الإسلامي، عندها يمكن أن نساهم بصورة إيجابية في حركة وتطور العالم.
العولمة هـنا ورغم اللبس المفاهيمي الذي يعتريها يمكن أن تكون منفذا لتفتح آفاقا وتتيح فرصا أمام الذين يمتلكون المهارة والقدرة التي تمكنهم من الحركة والازدهار والفعل الإيجابي الواعي. ليس واقعيا التعاطي مع الغرب بنرجسية، كما أن الإنصاف لا يسمح لنا بالتنكر لكل إيجابيات الحضارة الغربية، وقد آن الأوان لتجاوز ثنائية الرفض [ ص: 199 ] والقبول، «مع أو ضد»، تلك الثنائيات التي ساهمت إلى حد كبير في إرباك وعينا، وقدرتنا على الفهم واستيعاب حركة التغيرات اليومية.
إن بناء نظام عولمي إنساني الطابع والاتجاه، لا يتم إلا عبر مشاركة الجميع في تشكيله، نظام تقبله جميع الأطراف، يقوم على التعددية والحوار والتعاون والتعايش المشترك، وتنتفي منه لغة الفرض وأساليب الهيمنة. هـل يمكن أن تنجح شراكة متوازنة بين المدنية الحديثة والقيم الروحية؟ بالتأكيد ذلك ممكن، وأي رأي يذهب إلى غير ذلك سيحتوي على تشكيك غير مبرر بالقيم الروحية وبالمدنية الحديثة.
ومن الجدير بالذكر أننا لسنا ملزمين بوضع الغرب مقياسا ومؤشرا لحركة التقدم كما هـو الحال الآن، بل إن خيارنا كمسلمين ينبغي أن يتركز في «صناعة العالم المبتكر»، أي بناء نموذجنا العالمي الخاص بنا، والذي لا بد أن ينطلق من نظم معلومات فاعلة وحيوية، نظم تستطيع السيطرة على أداء المجتمع المعاصر بتعقيداته وظواهره المختلفة، مستندة إلى نظام متكامل من القيم التي يعيش المجتمع في وارف ظلها، أي إعادة النظر في طبيعة علاقتنا مع العلم، وتجديد نظرتنا إلى منظومة القيم الحاكمة. إن هـذا التلازم بين العلم والقيم هـو الذي سيعيد الهيبة لحركة العلم والتطور المعرفي، بما يسمح بتفجير الطاقات العلمية الخلاقة.
ومن هـنا، فإذا كانت العولمة تعني التفاعل والتشابك والتداخل بين [ ص: 200 ] أصناف الخلق، والتأثير المتبادل بين العوالم، فلماذا لا نتحلى بإيجابيات الحركة الحضارية بدافع العالمية، واستنادا إلى النظرية التوحيدية لعالم يخضع لرب واحد وتحكمه قيم تتصف بالإنسانية والعالمية؟
وعلى الرغم من أننا استعرضنا في بحثنا كثيرا من الآثار والتحديات التي تواجه الدول الأقل تطورا من جراء عملية العولمة وتجلياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، إلا أن هـناك من يؤكد على أن العولمة، مع أخطارها، تحمل في طياتها العديد من الإمكانيات التي تسهم في إحداث الارتقاء والتطور.
ونحن لا نرى مشكلة العولمة من منظور ضيق، أي من رؤية التشاؤم أو التفاؤل، أو مع أو ضد، وإنما يجب أن نضع المشكلة (العولمة) في الإطار الصحيح. فالعولمة ما هـي إلا واقع لا بد من الاعتراف بوجوده، وبالتالي تصبح المشكلة: هـل نحن قادرون على مواجهة تحديات هـذه الظاهرة؟ هـل نستطيع الاندماج في نظام العولمة مع التحوط للمخاطر Integration With Dafguards، كما يشير الأمين العام للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا)؟ ومن هـم القادرون على مواجهة تحديات العولمة [10] ؟ [ ص: 201 ]
هل يتحول العربي والمسلم في الزمن المعاصر إلى شخصية كوكبية؟ وإلى أي مدى يتقبل أو يستدمج سمات شخصية جديدة تمثل العناصر الحية والفاعلة في التراث؟ وهل سيصبح مواطنا بلا هـوية محددة؟ ولمن يشعر بالانتماء؟
وهل بإمكان العربي والمسلم في الزمن المعاصر تحدي تغيرات عصرية توجهها شركات متعددة الجنسية؟ وما دور الفرد، وما دور النظام الذي ينتمي إليه أو كان يشعر نحوه بالانتماء والهوية؟
وربما تكون التساؤلات المثارة هـي جزء من تكوين سمات شخصية جديدة تحمل بين طياتها تناقضات ثقافية، في ظل متغيرات عصرية مفروضة على الإنسان العربي والمسلم في الزمن المعاصر.. فالاغتراب، والفردية، والمادية، والاستهلاك الترفي، سمات سائدة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث تحولت الثقافة العربية والإسلامية إلى ثقافة من نوع جديد، ربما تقترب من المفهوم الذي قدمه « كاربولاني » في كتابه المعنون «التحول الكبير» بحضارة السوق، حيث يصبح كل شيء خاضع لشروط ولنظام السوق، «حتى روح الإنسان نفسه».
غير أن هـذا كله مرهون بمدى قدرة الإنسان العربي والمسلم -ككتلة تاريخية متحركة- على مواجهة التحدي والمواجهة. [ ص: 202 ]