النموذج الديني المسيحي
في خضم البحث عن نماذج بديلة للاتجاه الوضعي في الإدارة التربوية حط بعض المفكرين رحالهم على تخوم الدين وبعضهم اخترق هـذا (التابو) الذي لم يعد محرما، ولكن قوة نفوذ العلمانية جعلت كثيرين منهم ينأون بأنفسهم عن استخدام لفظ (الدين) لقد استخدم (سيرجيوفاتي) عام 1992م تعبير (السلطة المقدسة Sacred Authority) كمصدر من مصادر المعرفة الموثوق بها في الإدارة التربوية.
وقد دعا إلى ذلك تحديدا في (الإشراف التربوي) (وهو حقل تربوي فرعي، بينه وبين الإدارة الكثير من المشتركات لدرجة دمجه بها لدى كثير من المفكرين والباحثين) .
عدا عن أوجه القصور التي سبق الحديث عنها في النماذج العلمانية، خاصة الوضعية، أصبح كثير من مكونات الفكر العلماني موضع هـجوم ونقد في العقود الماضية، واليوم هـناك اتفاق عام على أن الدين في القرن الحادي والعشرين لن يختفي ولا العلمانية سوف تزول من مفرداتنا وفكرنا، ولكن التطورات في الدراسة العلمية الاجتماعية للدين أخذت تقوض كثيرا من مصداقية العلمانية (Hadden and Shupe) .
من ناحية أخرى تكيفت الكنيسة مع العالم المتغير، واستوعبت العلم الذي كانت تحاربه، وأنشأت المنظمات الدينية مؤسسات تقدم الخدمات وتقوم بالوظائف الاجتماعية التي تقوم بها المنظمات المدنية (مدارس، جامعات، حركات شبيبة، بيوت كبار السن، مؤسسات رعاية اجتماعية، وصحف وهكذا) والتي ركزت على تلبية الحاجات الإنسانية الملحة وتحقيق [ ص: 71 ] العدالة الاجتماعية إضافة للعناية بالجوانب الروحية، وقد أطلق (Chaves, 1993) على ذلك وصف (العلمنة الداخلية للكنيسة) .
وفي ميدان الإدارة تشير الدراسات المعاصرة إلى أن الدين قد ظهر من جديد كمشارك مهم في الجدل الأكاديمي حول القضايا الإدارية. هـناك طرح جديد للقضايا الإدارية باعتبارها قضايا أخلاقية يحق للكنيسة إبداء وجهة نظرها إزاءها.
لا يسلم هـؤلاء أن الإدارة موضوعا من اختصاص أهل العلم والبحث فقط بل هـي قضايا ترتبط مباشرة بالعقيدة: (لا يمكن أن تتم أفعالنا وبحوثنا دون الإشارة إلى نماذجنا الفكرية ومنظوراتنا) (JenKins, 1988) .
وهذا الاتجاه لجعل الدين ذا صلة بالإدارة هـو جزء من اتجاه عام لجعل الدين ذا صلة بجوانب الحياة اليومية الأخرى والحقول المعرفية الأخرى مثل الاقتصاد ففي عام 1986 مثلا نشر رجال الدين الكاثوليك في الولايات المتحدة رسالة بعنوان: (العدالة للجميع: التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية واقتصاد الولايات المتحدة ومتضمنات ذلك للتوظيف والفقر والتعاون) حول القضايا الخلقية التي يطرحها الاقتصاد (Velasquez and Gerald, 1988) .
هناك تقارير متواترة عن تزايد (الروحية Spirituualiy) في أماكن العمل ليس بالمعنى بل بمعنى طرح التساؤلات عن المغزى من العمل والأفعال الإنسانية في ضوء بعض القيم مثل الأمانة والثقة والعدالة والنزاهة والإنصاف والتفتح الذهني والعدالة والالتزام والمساواة والحرية والاستقلالية بحيث تجد هـذه القيم طريقها للتعبير عبر الإجراءات والممارسات اليومية خاصة على مستوى القادة (Fairholm, 1997) . [ ص: 72 ] يعتقد أنصار الطرح الديني في الإدارة أن لهم أسبابهم في مطالبتهم بإدخال المنظور المسيحي في الإدارة. يرى بعض هـؤلاء أن الإدارة الحديثة تتعارض مع مبادئ الإنجيل. وقد عبر (Rush, 1988) عن ألمه لأن كثيرا من المؤسسات المسيحية قد قبلت فلسفة الإدارة العلمانية وسعت لتحقيق كلمة الرب باستخدام تلك الفلسفة الإدارية التي تتعارض جذريا مع مبادئ الإنجيل.
هناك دوائر مسيحية أخرى قلقة من تعرض القيم المسيحية للاندثار بسبب التلاشي السريع للبنى الاجتماعية في الأحياء الصغيرة وتزايد التسليع والتسلية والتفاوت الكبير بن قيم الكنيسة - المنزل والقيم التي تغرسها المدرسة الحديثة.
هناك مسيحيون آخرون معنيون بجعل الدين على صلة الحياة. (مع أن الدين ليس كتابا عن الإدارة والتنظيم إلا أنه يضع المبادئ التي تشكل البنى والعمليات التنظيمية. إن مبادلة عريضة بحيث تقرر ما الذي ينبغي عمله كيف ولماذا؟) (Lawrence, 1998) .
التبشير بالدين عامل آخر لطرح المنظور المسيحي: (نريد أن ننقل للآخرين ما نعلمه بالقلب والخبرة أنه طريق الخلاص الوحيد. الكلمات هـي مجرد شكل من أشكال الشهادة. أما صفات الشخصية والطاقة في العمل والشعور بالابتهاج في العمل والصلابة والإنصاف والمساعدة والعناية بالآخرين من حولنا فهي تتكلم بصوت أعلى بكثير من الكلمات) (Catherwood, 1966) .
من ناحية أخرى بنت التيارات المسيحية على ما بدأته الاتجاهات الأخلاقية في الإدارة، التي أخذت تركز أكثر وأكثر على القيم والأخلاق [ ص: 73 ] والمبادئ والفضائل والروحية والمصداقية. ويشيع بشكل خاص في أدبيات الاتجاهات الأخلاقية في الإدارة مفهومان قديمان هـما (الخدمة Service) . و (القوامة Stewardship) ، ويدعو أصحاب هـذه الاتجاهات إلى فهم القيادة على أنها قبول وتجسيد لمسئوليات الشخص باعتباره قيما مؤتمنا. ومثل هـذا الفهم ضروري لتحويل القيادة إلى قوة مؤثرة لتحسين الوضع المؤسسي.
تلتقط الاتجاهات المسيحية في الإدارة الخيط من هـنا لتغمس مصطلحي الخدمة والقوامة في التراث المسيحي. يرى ( ساند مارك ) أنه لكي تخدم المجتمع دون أن تكون عبدا للمجتمع تحتاج إلى أن ترسي حبالك في مرسى خارج المجتمع، مثلا في العقيدة، ويضيف أن الخدمة جوهرية في الإنجيل. لقد تكلم المسيح عن نفسه كخادم وعن حواريه بأنهم خدم لبعضهم بعضا (SandsmaK, 1997) ، ويعلق آكوشي (AcKuchi,1993) على قول المسيح: (مملكتي ليست من هـذه الأرض) (يوحنا: 36 : 18) مقارنا بين قيادة المسيح والقيادة الدنيوية: قيادة المسيح مدفوعة برغبة في الخدمة وليس بالمصالح الذاتية بينما تعد القيادة الدنيوية طريقا للشهرة والنجومية في عالم البقاء للأصلح، ويجد هـذا المفهوم دعما له في خطاب المسيح لتلاميذه: (بين الوثنيين ملوك جبارون، وكل مسئول صغير يظلم من هـو أدنى منه، ولكن بينكم الأمر مختلف. أي واحد منكم يريد أن يصبح قائدا لكم يجب أن يكون خادمكم. وإذا كنتم تريدون البقاء في القمة يجب أن تخدموا كعبيد... أنا المسيح لم آت لأخدم بل لأخدم) (متى 20 : 20 - 28) .
ويرى (Rush, 1988) أن هـذه العبارات تشكل حدا فاصلا بين الفلسفة الدنيوية في الإدارة وفلسفة المسيح في (النظام العلماني للإدارة غالبا ما يستخدم [ ص: 74 ] القادة سلطتهم وقوتهم لاضطهاد من هـم أدنى منهم، مع أن الأكثر تنورا لا يفعلون ذلك. القائد المسيحي يجب ألا يتصرف على هـذا النحو، عليه أن يخدم من هـم تحته بمساعدتهم للوصول إلى أقصى درجات الفعالية، وكلما صعد الشخص في السلم الإداري عليه أن يخدم أكثر) . ويشير (Rush) إلى قصة رحبعام (سفر الملوك 7 : 12) الذي تجاهل النصيحة الإلهية: (إذا كنت اليوم خادما لهؤلاء الناس وخدمتهم وأعطيتهم ما يريدون سيكونون دائما خدما لك) . ولكن رحبعام لم يستمع للنصيحة بل استخدم سلطته وقوته للتحايل والتحكم والاستغلال مما أدى بالأمة للتمرد عليه وطرده.
وقد تضمن إعلان (براغ الكنسي (1997م) (The Prague Declaration) حول التربية مبدأ الخدمة، وتطرق إلى العديد من القضايا التربوية، وحول الإدارة التربوية قال الإعلان:
1 - يجب أن تخدم الإدارة التربوية الأغراض الأسمى من التربية وليس الرؤى المدفوعة بالدوافع الاقتصادية وحسب.
2 - على الإدارة التربوية أن تحمي دائما الفقراء والمهمشين والمحرومين والمستضعفين.
3 - يجب أن تكرس القيادة التربوية للرؤية والإلهام والخدمة وليس السيطرة.
4 - يجب أن تمارس السلطة بطريقة مسئولة منفتحة ميسرة وليس بطريقة سلطوية مغلقة ميالة للعقاب.
أما القوامة فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالخدمة. وهي تعرف بـ (أن يكون الشخص قيما على ممتلكات الغير وأن يستخدمها ويستثمرها) ، وهي تتضمن معاني المبادرة والمسئولية وحس الاتجاه، كما أنها تتخطى مجرد الربح إلى ثراء النفس والمؤسسة وبناء الإجماع. القيم هـو في خدمة الغير وليس فوق [ ص: 75 ] (الغير) والقوامة تتبنى التربية والإقناع وليس الإكراه. ومن منظور القوامة فالوسائل والغايات مهمة على حد سواء. كما أن رأي الآخرين وقيم المجتمع مهمة. هـذه الخصائص للقوامة تعطيها بعدا روحيا، (أن نرتقي إلى ما أسند إليها، أن نمارس السلطة مع الشكر، وأن نسعى للمغزى الذي يتجاوز المصلحة الذاتية قصيرة الأمد) .
يميز الباحثون المسيحيون بين القوامة المسيحية والعلمانية (العلاقة مع الرب والاستجابة للمسيح هـما عماد القوامة المسيحية) ، ويؤكد (كلينارد) أن القوامة المسيحية هـي استجابة للرب على فضله وللمسيح على حبه ولا يوجد أي دافع خارجي لها، إنها تتضمن حسا بالواجب والامتنان من الاعتراف بأن كل ما نمتلكه هـو أصلا من الله وأن المرء مساءل على إدارته له وأن على المرء أن يشكر الله على فضله بقيامه بالقوامة، القوامة المسيحية هـي التزام مقبول بشكل إرادي مدى الحياة (Schroeder, 1988) .
يعد فهم القوامة وممارستها أساس الإدارة التربوية المسيحية، ويجب أن تتشكل في وقت مبكر من حياة المرء (في سن المدرسة) لتكون رادعا في وجه الاستهتار والانشغال بالدنيا.
منطلقات القوامة المسيحية في الإدارة التربوية: الاعتراف بأن الرب مالك كل شيء، الاعتراف بأن المركز أمانة مقدسة، الاعتراف بالمسئولية الشخصية، الاعتراف بالمساءلة، حسن إدارة الوقت والحياة والمال (Clinard, 1980) . [ ص: 76 ]