النموذج النقدي في الإدارة التربوية [1] النموذج النقدي هـو نموذج فكري معروف في العلوم الاجتماعية مثله في ذلك مثل النموذج الوضعي، وكما في النموذج الوضعي فقد تم تبني النموذج النقدي من قبل بعض المفكرين في الإدارة التربوية، وهناك نسخ متعددة من النقدية: النقدية الماركسية، والماركسية الجديدة، والنقدية غير الماركسية ، ولكن عادة ما يشير النموذج النقدي إلى النسخة غير الماركسية من النقدية رغم وجود مقولات مشتركة بينهما، والذي نعرضه هـنا هـو النموذج النقدي غير الماركسي. - المرتكزات الفلسفية للنموذج النقدي [2]
الإنسان
يختلف الإنسان درجة ونوعا عن الكائنات الأخرى، ويترتب على ذلك أن الظاهرة الإنسانية الاجتماعية لا يمكن دراستها بنفس الطريقة التي تدرس فيها الظاهرة الطبيعية أو الحيوانية.
الحقيقة
يؤمن النقديون بوجود حقيقة تتشكل بفعل الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وعامل النوع الاجتماعي. [ ص: 56 ]
المعرفة
المعرفة لدى النقدية سلسلة استبصارات تاريخية / بنيوية تتشكل مع مرور الزمن عندما يستبدل الجهل والخوف المستحوذ باستبصارات متنورة وتفاعل جدلي. والمعرفة لدى النقدية لا تتراكم هـرميا بل تنمو وتتغير عبر عملية جدلية تمحو الجهل واستحواذ الخوف وتوسع دائرة الاستبصارات المتنورة. يمكن التوصل إلى تعميمات إذا تشابهت القيم والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإثنية وظروف النوع الاجتماعي عبر الأماكن.
القيم والأخلاق
للقيم مكان الصدارة في النموذج النقدي، وتترجم الأخلاق في النموذج النقدي بالعمل على إزالة الجهل وإثارة الوعي. وينتقد النموذج النقدي النموذج الوضعي في الإدارة التربوية لاستبعاده القيم من البحث الإداري، ولتجريده الإدارة من البعد الأخلاقي، ولتركيزه على التوصل إلى قوانين وتعميمات لفهم هـيكل وديناميات الإدارة، ولتركيزه على القضايا الإدارية أكثر من القضايا التربوية بحجة الحرص على كفاءة الأداء، وكأن إدارة المدارس هـي مجرد عمليات تنظيم وتنسيق وتخطيط واتخاذ قرار واتصال يقوم بها الإداريون. وبهذا يعيد النموذج النقدي البعد الأخلاقي للنظرية الاجتماعية الإدارية التي استبعدها النموذج الوضعي.
الباحث وموضوع البحث
الباحث النقدي يكشف ويعري ويغير نمط علاقات الاضطهاد في المؤسسة التعليمية، يستخدم استبصاره وحدسه المتنور ومعلوماته المباشرة وخبرته، ويستخدم ضمير المتكلم وليس الغائب، ولا يدعى الموضوعية الزائفة بل الذاتية المتنورة، ولا يخفى غرضه من البحث [ ص: 57 ] يستخدم الطرق الكيفية مثل دراسات الحالة وتحليل الوثائق والمقابلات والمشاهدة المشاركة ويركز على المداولة المستمرة. وفي النموذج النقدي يتحول العاملون إلى باحثين مسلحين بالوعي، يحددون موقعهم في السياق العام للمؤسسة ويعملون على التغيير. من هـنا تأتي أهمية البحث الإجرائي واحترام خبرة العاملين واعتبار العاملين باحثين. - متضمنات النموذج النقدي للإدارة التربوية
- لا يمكن فهم المنظمات ومن بينها المدارس، إلا في ضوء تحليل علاقات القوى السائدة التي لا تقتصر على ما يجري داخل المنظمة بل خارجها، فما يجري داخل المنظمة إن هـو إلا امتداد لتجاذب القوى الخارجية، حتى التقنيات التنظيمية مثل تقسيم العمل وغيره إن هـي إلا تعبير عن علاقات القوى وليست تعبيرا عن ضرووات وظيفية أو تنظيمية وما الأهداف والتقنيات واللوائح والإجراءات التنظيمية وغيرها إلا أفعال بشرية أو منتجات جانبية لنشاطات بشرية.
- العالم الاجتماعي (ومنه المنظمات والمدارس) في حالة صيرورة دائمة أيا كانت الترتيبات الاجتماعية السائدة (مثل المؤسسات المختلفة) في وقت من الأوقات، فهي مؤقتة، ولو كانت الظروف مغايرة لكانت الترتيبات مختلفة. وسوف تفسح هـذه الترتيبات الطريق لترتيبات جديدة قد تظهر في البداية على أنها نقيض لها أو على الأقل في نزاع معها. [ ص: 58 ] _ يفترض في الإدارة أن تكون فعل تحرر، هـاجسها تسخير المنظمات التعليمية والممارسات الإدارية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعرية ومحاربة كل الجماعات التي تعمل لمصالح خاصة على حساب مصالح الآخرين، والتي تقنع الهيمنة والاضطهاد بقناع التحرر.
يؤكد النقديون كثيرا على الاتصال، فمجتمع الهيمنة والاضطهاد ينتج تشوهات في الاتصال ما يعوق التحرر. يستخدم النقديون تعبير (وضع الخطاب المثالي) للإشارة إلى بيئة اجتماعية تسمع فيها جميع الأصوات دون هـيمنة صوت على آخر. كما يركزون على (كفاءة الاتصال) اللازمة للمشاركة الفعالة في صنع القرار.
وتعني (كفاءة الاتصال) القدرة على استخدام الخطاب بشكل مناسب لتحقيق الأهداف، والقدرة على جعل الآراء قادرة على الإقناع وكذلك القدرة على تكييف الخطاب لجعل النيات مفهومة. ولذلك من واجب الإدارة التربوية تهيئة وضع الاتصال المثالي في المدرسة وخاصة في الاجتماعات وعند صنع القرار. عندئذ يجب أن يكون الجدل عقلانيا تعرى فيه المصالح والقوة المستندة للمركز واستبدالها بالقوة المستندة للحجة، مع حق كل فرد أن يستمع الجميع إليه. يتم مناقشة القضايا بصدق وإخلاص وشمولية وعقلانية واستنادا للشواهد، هـذا يحتاج إلى إرادة وبنية تحتية مثل قنوات اتصال مفتوحة، كما يتطلب:
1 – توفير المعلومات وتشاطرها والاستشارة والقنوات المفتوحة من الاتصال مع القادة باعتبارهم ممكنين (enablers) لا مديرين. [ ص: 59 ] 2 – النقاش والتساؤل النقدي حول القضايا التعليمية وصنع السياسة والقرارات.
3 – وضع المصالح ومدى شرعيتها موضع التساؤل عند صنع القرار.
4 – الحاجة إلى اتخاذ قرارات تجسد مبادئ وضع الخطاب المثالي.
5 – استبدال العقلانية التقنية بالتحرر.
6 – الحاجة إلى قرار جمعي زمالي وليس أوتوقراطيا .
7 – تحديد طبيعة ومدى العمليات البيروقراطية في المؤسسة ودورها في الإعاقة أو التمكين.
- وحيث يتم قدر كبير من الاتصال من خلال اللغة فإن النقديين معنيون بكشف دور اللغة في الاضطهاد حيث تجعل الفئات المهيمنة المهمشين في وضع يصعب فيه عليهم فهم الوضع القائم ناهيك عن الخروج منه.
من هـنا تبدو أهمية تفكيك وإعادة تركيب الحقائق والمواقف ورؤية ما وراء الموقف وتقصي أشكال ارتباط الخطاب بالقوى المسيطرة، وتقصي كيفية خدمة القوة والمعرفة للقوى المسيطرة من خلال إعادة إنتاج الممارسات اللازمة لذلك.
يرفض النقديون مقولة: أن الإدارة علم مجرد من التأثر بالثقافة والقيم وأنه لا علاقة بين المنظمات التعليمية والبني الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهم ينتقد النظريات التقليدية في الإدارة لتجنبها الخوض في العلاقة بين البنى الاجتماعية والنظام المدرسي، وبذلك تعمل على تأمين [ ص: 60 ] المصالح الرئيسة للفئات المهيمنة وترسيخ هـيمنتها، ولذلك فإن الرسالة التي تبثها المدرسة (من خلال المناهج مثلا) تستخدم لتكريس انعدام المساواة.
ويعتقد أنصار هـذه النظرية أن النظريات السائدة في الإدارة التربوية حاليا تعمل لخدمة القوى المهيمنة في المجتمع وإعادة إنتاجها وإضفاء الشرعية عليها. ويرى هـؤلاء أن المنظمات القائمة تتصف بالنخبوية والتوزيع غير الملائم للقوة (أو السلطة) والافتقار للمنظور التاريخي وعدم القدرة على إحداث تغير اجتماعي وبالقبول الضمني بالوضع القائم، وفوق ذلك فهي تعرقل أي برنامج عملي يهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع الاجتماعية على أساس من التحليل المعقول لإمكانيات وحدود الأشكال الاجتماعية السائدة.
- ويعيب أنصار النظرية النقدية على النظريات السائدة استبعاد البعد الأخلاقي في أعمالنا والتركيز على القضايا التقنية التي يسهل حلها إداريا بدلا من ذلك يرى هـؤلاء أن نظريتهم النقدية تفسر سر هـيمنة طبقة على أخرى من خلال تحليل الأعمال والممارسات، ومن خلال تفسير العلاقات بين البنى الاجتماعية وأنماط السلوك المختلفة، وتقديم تحليل لها في سياق تاريخي يلقي الضوء على كيفية وجود الفرد في هـذا الموقع أو ذاك، وعلى كيفية قبول بعض الأفراد للممارسات القمعية، وانتفاضة بعضهم ضدها، وعلى طرق تزييف الوعي وكيفية تجنب ذلك، وذروة ذلك تقديم برنامج عمل يعلم الأفراد كيفية العمل والتنظيم بشكل مختلف. تعني هـذه النظرية أيضا بدور علماء الإدارة بالإنتاج الاجتماعي للمنظمات، وبالأساس [ ص: 61 ] السياسي للمنظمات خاصة ما يتعلق بعلاقة السلطة بالبنى التنظيمية، وربط المنظمات بالمنظومة المجتمعية.
- ويضيف هـؤلاء أن قضايا المعرفة والتعليم والقيم لا يمكن تناولها بدون اعتبار البنى الفوقية مثل الاقتصاد والنظام السياسي، من هـنا أهمية المنحى الجدلي الهادف إلى تعظيم القيمة الفردية ضمن الخير العام والمشترك للمجتمع، والذي تكون نتيجته النهائية دمقرطة الحياة الإدارية والتنظيمية. لذلك يجب أن تعنى الإدارة التربوية أكثر بالارتقاء بالقيم الاجتماعية الفردية مثل الديموقراطية التحررية والتحرر الإنساني لبناء مجتمع أفضل وليس بمجرد تقديم المعرفة.
- تؤكد النقدية على أهمية المدرسين في تحسين المدارس وترفض زحف الضوابط البيروقراطية ومكننة التعليم لترسيخ سيطرة النخب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية على عمليات التعليم.
- كما تدعو النظرية النقدية إلى المجيء بالجمهور الخارجي (الآباء وأفراد المجتمع) إلى مركز النشاطات المدرسية، هـم الآن على الهامش، لأن أدبيات الإدارة السائدة تجعل المدير كأهم عنصر في المدرسة، قلما يتحدث الأدب السائد عن التمكين والإدارة الذاتية، إنه أدب إقصائي للمدرسين والتلاميذ والآباء وأفراد المجتمع. الأدب السائد قائم على الهرمية والتنافس والفوز (أن أكون رقم 1) وهذا يؤدي إلى خسارة حس الاتجاه (Sense Of Direction) والحرص على التحكم والضبط. [ ص: 62 ] - لذلك تنتشر في أدبيات النظرية النقدية موضوعات مثل إضفاء الطابع الإنساني على العمليات التنظيمية، تطوير نظم المشاركة (مثل الإدارة الذاتية) ، استحداث بدائل للبيروقراطية، إزاحة نظم الهيمنة، توظيف الخبرة التقنية بدون تشكيل نخب تكنوقراط، إزالة العوائق أمام البدائل.
- هـناك حاجة أيضا لبرامج تنمية مهنية تجعل المعلمين والمربين على وعي بالمشاركة في العمليات السياسية ومحتوى المنهاج والتعليم والتقييم من أجل أن يكتسبوا قوة وقدرة للعمل كمثقفين تحويليين. كما يجب توفير فرص للتطوير اللغوي في عدة أشكال مثل حلقات المناظرة والنقاش وطرح الأسئلة وإثارة الأسئلة والنقد والتبرير والدفاع عن الحجج. تعقيب
يظهر العرض السابق وجود كثير من الاتجاهات في الإدارة التربوية تنتمي لعدة نماذج فكرية. ورغم اختلاف توجهات تلك الاتجاهات إلا أن هـناك خيوطا تسري بينها جميعا من ذلك فقدان الثقة بالطريقة العلمية أو وضعها موضع التساؤل، أو الدعوة إلى تقييدها، وهناك قلق على القيم والبعد الأخلاقي في الإدارة التربوية، ولكن يبقى السؤال: أين من هـنا؟
يظهر استطلاع الأدبيات أن النماذج الجديدة قد شقت لها طرقا في حقل الإدارة التربوية، وأنها ليس هـنا لتبقى بل لتزدهر وأنها قد تجاوزت البلورة إلى المأسسة، هـناك عدد من العلماء لا بأس به ينتمي لهذا النموذج أو ذاك وهناك من ناحية أخرى استيعاب لأفكار هـذه الاتجاهات من قبل الاتجاه العلمي السائد، الذي يقوم بحركة تصحيحه ليبقى قادرا على الاستمرار. [ ص: 63 ] سؤال آخر وهو: ما إذا كانت هـذه النماذج قادرة بنفسها على هـداية البحث؟ الإجابة: أن هـذه النماذج ليست محصنة ضد النقد، وبالتالي فالمتوقع بقاؤها واستمرارها دون أن يعني ذلك اختفاء خصمها الوضعي العلمي اللدود ولو في نسخته (ما بعد الوضعية) ، يقول: (كوهن) : النماذج تستمر حتى بعد أن تفقد مصداقيتها، هـذا إضافة إلى عملية التصحيح الذاتي.
هل سنشهد مصالحة أم هـي حروب نماذج؟ من المبكر الإجابة عن السؤال... هـناك في المعسكرين الرئيسيين متطرفون لا يرون مجالا للمصالحة، ففي المعسكر العلمي هـناك (Willower) و (Evers and LaKomsKi) ممن يرون ألا تنازل عن مرجعية العلم، وأن التصحيح واستيعاب القيم والأخلاق يجب أن يتم تحت سقف المرجعية العلمية. وفي المقابل هـناك (Sergiovanni) و (Greenfiled) و (Bates ) ممن يرون ألا مجالا للمصالحة، للاستيعاب بل الإقصاء.
وبين هـؤلاء وأولئك من يرى أفقا للالتقاء وسط الطريق، يدعو (Griffiths ) إلى تعددية نظرية يتم وفقا لها اختيار الأفضل بناء على معايير الجدوى والتكلفة وسهولة الاستخدام.
ويرى (HOY, 1996) أن المنظورات النظرية في الإدارة التربوية يجب أن تكون مفتوحة مرنة تعددية إذا كان لها أن تكون مفيدة. ويرى (LEE ) أن النماذج ليس متعارضة بل متكاملة وقابلة للتصالح، بينما يدعو (ZALD, 1996 ) إلى إعادة بناء علم التنظيم ليشمل العلم والإنسانيات . [ ص: 64 ]