عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أرسل رسـله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسـط، فتسـود شريعة العدل الحياة بكل أنشطتها، ويكون عطاء النبوة وقيم النبوة الإطار المرجعي والضابط المنهجي لإشاعة ثقافة العدل وممارسته في حياة الناس، بحيث تكون النبوة وسيلة البيان والشـاهدة على إبلاغ الأمـم رسـالة الله، رسـالة العدل،
قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25) .
ذلك أن معظم الشر في العالم متولد عن غياب قيمة العدل والمساواة بين الناس، وناشئ من تسلط الإنسـان على الإنسان، ذلك التسلط الذي بدأ مع بدء الخلق،
يقول تعـالى: ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط [ ص: 5 ] يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) (المائدة:27-30) . ولقد أخذ هذا التسلط والتـأله في التاريخ أشكالا وألوانـا قد لاتحصى، وكلما افتضح لون من ألوان هذا التسـلط استبدله الإنسان بتسلط جديد.
ويبقى التسلط في جوهره هو التسلط، فمن تسلط مالك الأرض على من يعمل فيها إلى مالك المال على الأجراء والعمال، إلى تسلط المتحدث باسم الله، الذي تسلط على ضمائر الناس في دنياهم وآخرتهم، إلى حكام الاستبداد السياسي ، إلى نظرية الشعب المختار دون سائر الشعوب واصطفاء العرق، إلى تسلط الحزب والطبقة، إلى ممارسات التمييز العنصري ، الذي يعج به العالم اليوم، إلى حقبة الهيمنة والتسلط على مستوى الدول وتجاوز السيادات، حيث يحتكر العلم الفعال اليوم ويتلاعب بأهدافه ويوجه جميعا إلى إنتاج أدوات السيطرة والهيمنة والتسلط في هذه الحقبة الإلكترونية.
وفي اعتقادنا أن هذا الشر، لا يمكن أن ينتهي إلا بإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، أساس الشر، وهذا الإيقاف لا يتحقق إلا بإشاعة المساواة والعدل بين بني البشر، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بإلغاء التأله وتوحيد الألوهية، فالتوحيد والإيمان بالله الواحد يعني - فيما يعني – التحرير [ ص: 6 ] من العبودية، والتحرر من ألوان الظلم والتسلط، والوصول إلى المساواة والعدل، وهي رسالة النبوة في التحرير.
وهكذا فالمدافعة، التي تشـكل جدلية الحياة، مسـتمرة بين الحق والبـاطـل: ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه ) (الأنبـيـاء:18) ،
( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) (الرعد:17) ،
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) (الفرقان:31) .
فالمدافعة مستمرة بين النبوة ببيناتها ورسالتها التاريخية وأهدافها في إشاعة ونشر العدل والمساواة وبين الظلمة والكبراء والمتسلطين والمتألهين من الناس على الناس، الذين يحاربون رسالة النبوة والإيمان بالله؛ لأنها تسويهم بغيرهم من البشر، وهم يريدون أن يكونوا آلهة فوق البشر.
لذلك نقول: إن الشر تاريخيا كان ولا يزال ناشئا من تسلط الإنسان على الإنسان، وإن الخير كل الخير في التوحيد في الاستمساك برسالة النبوة والإيمان بالإله الواحد، الذي يتساوى أمامه الناس جميعا.
والصلاة والسلام على المبعوث شهيدا على الناس بالبيان والإبلاغ لرسـالة النبوة وعطـائها في العدل والمسـاواة والتحرير من العبودية بكل أشـكالها،
يقول تعالى: ( وأمرت لأعدل بينكم. ... ) (الشورى: 15) ،
وبذلك فالعمل على تأسيس وتأصيل الوسطية وإقامة العدل والمساواة دين، [ ص: 7 ] من الدين ومسئولية، يترتب عليها التزامات الثواب والعقاب والشهادة على مدى أدائها أمام الله من قبل الأنبياء قبل أن تكون قانونا والتزاما في الدين.
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» التاسع والعشرون بعد المائة: «فقه التوسط: مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية» للدكتور نوار بن الشلي ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة منها في إعادة البناء وإخراج الأمة، واسترداد فاعليتها، والهداية إلى سبل السلام، وبيان مسالك الرشاد، والعمل على تحقيق خلود القيم الإسلامية في واقع الناس وذلك بإنتاج النماذج الربانية، التي تكون محلا لإثارة الاقتداء، وذلك بفقهها لقيم الإسلام واستصحاب تاريخه الحضاري ومقاربة جيل خير القرون، وفهمها للعصر بامتلاك القدرة على الإفادة من معطيات الحضارة المعاصرة بمعايير " منضبطة، من خلال قيم يعرف من خلالها ما يفيد وينفع وما يسئ ويضر. "
بل إننا لنرى أكثر من ذلك: إن استيعاب هذه الحضارة المعاصرة ومحاولة فهمها يتطلب امتلاك المؤهلات المطلوبة لذلك، ومن ثم تأتي مرحلة التمكن من كيفية التعامل والتكيف معها للوصول إلى مرحلة الحكم عليها، وحسن الإفادة منها، واجتناب مخاطرها، وإن شئت فقل: امتلاك القدرة على تقويمها والشهادة عليها من خلال خلود وامتداد قيم النبوة، التي جاءت بالبينات والهدى، واتسـمت رسـالتها بالكتاب والميزان، [ ص: 8 ] قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد: 25) ،
الحكمة والعدل، ذلك أن الإنسـان الغافل العاجز المتخلف منطفئ الفاعلية، العاجز بطبيعة حاله عن التعاطي مع قيمه وتراثه، هو أكثر عجزا في الوقت نفسه عن الإفادة مما عند الآخرين؛ لأنه يعاني من حالة الضلال والفراغ واهتزاز المعايير، التي تمنحه الرئية والبصيرة على تمييز النافع من الضار.
لذلك نقول: إن الإنسان الوسط، والأمة الوسط، والقيم الوسط، هي التي تمتلك الإمكانية أو القدوة، إلى جانب الرئية المبصرة لحقائق الأشياء وموازنتها؛ تمتلك الحكمة الكتاب، والميزان.
ولعل من اللافت في تاريخ حضارة النبوة، حضارة التوحيد، وعلى الأخص عطاء رسالة وسيرة النبوة الخاتمة تميزها بالمعيارية .
فالقرآن الكريم هو المعيار، الذي توزن من خلاله الأمور، وتبصر العواقب، ويعتمد ميزانا محايدا غير منحاز؛ لأنه من وضع الله، في التقويم والتصحيح؛ وهو معيار بناء الرشاد،
يقول تعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ) (المائدة: 48) ،
فأهلية النظر في الأمور والحكم عليها واستبانة وجه الصواب فيها واكتشاف سبل الانحراف والتحريف إنما يوزن بقيم القرآن، ولعل المصطلح القرآني «مهيمنا» يشير إلى ذلك بوضوح، فهو يتضمن أبعادا وآفاقا ليس أقلها إمكانية الرقابة وتحديد مواطن الانحراف، [ ص: 9 ]
ويتضمن المعيارية في وزن الأشـياء، والعدل في ضبط النسـب، وبيان الخلل والاختلال، فالقرآن الذي يشـكل دسـتور هذه الأمة تكاد تكون من أبرز خصـائصه ومقاصـده وقيمه: المعيارية والتقويم، إقامة وحماية لقيم التوازن والاعتدال.
والسنة والسيرة بيان وتطبيق وممارسة وتنـزيل لهذه المعيارية على واقع الناس، ومعايرة وبيان ما هم عليه من الاستقامة أو الاعوجاج.
والرسول صلى الله عليه وسلم ببيانه وبلاغه وسلوكه معيار أيضا: ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ؛
والشاهد والشهيد، كصيغة مبالغة لشاهد، من أولى خصائصه وصفاته ومئهلاته أن يتسم بالعدالة من التوازن والاعتدال والمعرفة والسلوك القويم، من الترفع عن الدنايا والتحلي بالخلق العالي ( كان خلقه القرآن ) (أخرجه الإمام أحمد ) ، فهو الشاهد والأنموذج والقدوة في الدنيا، وهو الحجة والدليل وبينة الحكم في الآخرة، حيث يستشهد به كحجة ودليل وشاهد على فعل الناس، الذي يحاسبون عليه.
وأمة الإجابة، الأمة المسلمة، أمة الإيمان، من آمنت بالقرآن والسنة والرسالة والرسول، هي أمة الوسط، أمة المعيارية، بما تمتلك من معايير الكتاب والميزان ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) .
وبطبيعة الحال، فالقيم والأمة والحضارة التي تفتقر إلى العدل تفتقر إلى المئهلات التي تمكنها من الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير، لذلك جاء النص واضحا جليا: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء [ ص: 10 ] على الناس ) (البقرة:143) ، فالجعل وظيفة تكليفية حضارية وتاريخية وشرعية وأمانة عظيمة تترتب عليها المسئولية العظمى أمام الله؛ وأهلية الشهادة تتحقق بهذه الوسطية، بهذه العدالة، بهذه المعيارية، فانحراف العدالة والافتقار إلى مقومات المعيارية يسلب الأمة هذه الحقيقة العظيمة.
وباعتبار أن الأمة المسلمة أمة الرسالة الخاتمة، التي تشكلت من خلال معيار، من خلال كتاب، من خلال أسس قويمة قائمة على العدالة والحكمة، من خلال الكتاب والميزان، وليسـت أمة تشكلت بسبب من جنس أو لون أو جغرافيا أو غير ذلك من سـائر الأمور القسـرية التمييزية العنصرية الأخرى، هي أمة معيارية بأصل تشـكيلها وبطبيعة وظيفتها، لذلك فالتخلي عن هذه المعايير يسـلبها أهلية الشـهادة على نفسـها ويعجزها عن الشهادة على الآخرين.
وهنا نود أن نشـير إلى أن مواعيد الله سـبحانه وتعالى ومواثيقه أن لا تسلب هذه المعيارية من الأمة كلها، فالمأثور قوله عليه الصلاة والسلام: إن الأمة ( لا تجتمع على ضلالة ) (أخرجه ابن ماجه) ، ذلك أن هذا الاجتماع والقبول بالضلال والفساد يناقض خلود الرسالة الخاتمة وقدرتها على إنتاج نماذج بشرية تثير الاقتداء، كما يناقض خاتميتها، حيث من لوازم الخاتمية التجلي في واقع الناس.
لذلك نجد في حالات ومراحل السـقوط أن الأمة لا تسـقط بالكلية، وإنما تبرز الطائفة القائمة على الحق (الطائفة المعيارية) التي أخبر [ ص: 11 ] الرسول صلى الله عليه وسلم باسـتمرارها وعدم زوالها، في حمل المعيار والعدل وتمثله في ذاتها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك: ( لا تزال طائفـة من أمتي ظاهـرين على الحـق لا يضـرهم من خـذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) (أخرجه مسلم ) .
وهنا قضية، نرى أنه من المفيد استدعاءها، والتوقف عندها، بما يمكن أن يتسع له المجال، وهي: أن أمة الرسالة الخاتمة وريثة النبوة التاريخية، بكل قيمها وتجربتها، هي أمة الكتاب والميزان، أمة المعيار والمعايرة لكل فكر وفعل إنسـاني، رسـالتها بيان الحق وإقامة العدل (الكتاب والميزان) ، ولعل ذلك ما يميزها ويعتبر روح رسالتها وحضارتها، وميزانها في ذلك القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه (في الرئية المستقبلية واستشراف المستقبل) ، ولا من خلفه (الرئية التاريخية والاستشراف للماضي، لتجربة النبوة وتعاملها مع أقوامها) ، الأمر الذي يعني -فيما يعني، بعد استيعاب المعيار وامتلاك القيم- أن من أهم مسئولياتها ديمومة النظر والتصويب والنقد والمراجعة والمناصحة والمكاشفة والمثاقفة والمشاورة والتقويم وبيان مواطن التحريف والانحراف؛ هذه هي روح الأمة، وسبب خيريتها، وثمرة وسطيتها، ومسوغ بقائها، فهي أمة النقد والتقويم وبيان الحق والعدل.
إنه الشهود الحضاري بموازين الحق والعدل، الذي يعني الإيجابية والفاعلية وبناء المئسسات والوسائل وامتلاك المئهلات، التي توفر للأمة هذه [ ص: 12 ] المهمة وتحقق لها هذه الوظيفة، التي تشعرها بالمسئولية وتبني حضارة الحق والعدل والمساواة.
ولعلنا نقول، بكل الأسى: إن فترات التألق والإنجاز والفاعلية، التي كانت وراء البناء الحضاري والشهود الحضاري تاريخيا للأمة المسلمة
( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة: 143) ،
بدأت تخبو وتتراجع، بحيث يكرس العجز والتخاذل والتراجع وانطفاء الفاعلية وموت تلك الروح السارية في حياة الأمة، الأمر الذي أدى إلى الاستنقاع الحضاري والتخلف والتذرع بالقدر في قراءة حال الأمة، وليس ذلك فقط وإنما تحريم النقد والمراجعة والتقويم؛ لأن ذلك برغم بعض أنماط التدين المغشوش يناقض ويعارض القدر ويخرم الإيمان (!) الأمر الذي أدى إلى اتساع دائرة الجبرية القاتلة، وساهم بشـيوع السـوء والفسـاد على مستوى «الذات» و «الآخر»، لغياب الشـهادة والشـهود وقعود الأمة عن وظيفتها في إحقاق الحق والقيام بالعدل.
وقد تكون الإشكالية اليوم، ونحن نعاني ما نعاني من ضروب التخلف الذي ينعكس على كل فهم وفكر وفعل، اعتبار ذلك هو الدين السليم والتدين الصائب (!)
فأمة، أصل مهمتها النقد والتقويم والمراجعة والبيان والتصويب للواقع وبيان مواطن الانحراف والتحريف ومغالبة قدر بقدر، تتخلى عن رسالتها بمسوغات وذرائع دينية، وتدع مهمة الشهادة والقيادة، وتتوانى عن حملها، [ ص: 13 ] فيصبح الحبل على الغارب، ويسود الجور والحيف والظلم، ولا ترى في ذلك أي هاجس مخيف مقلق؛ لأنه القدر، الذي نلقي عليه بالتبعة لنعفي أنفسنا من المسـئولية،
والله تعـالى يقول: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) (الأنفال:73) (تخليا عن مهمة الشهادة ومقتضيات الولاية تحت أي ذريعة) .
لقد تحول النقد والمراجعة والتقويم والمعايرة من ميزة ووظيفة مأمور بها ومسئولية أمام الله، بسبب تعطيلها والقعود عنها إلى محظور، فانطفأت بذلك الفاعلية، وأقيل العقل، وتوقف الاجتهاد، وامتد الفساد عن مستوى «الذات» و «الآخر»، وتعطلت موازين الحق والعدل، وقعدت الأمة عن المهمة الرئيسة المنوطة بها، وتسللت إليها علل الأمم السابقة من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض (عمليا وإن لم يكن نظريا) فأصابها الخزي والعجز والوهن:
( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) (البقرة:85) ؛
إنها الصعوبات في الدنيا والجـزاء الأوفى في الآخرة على المعاصي، التي نقترفها، وفي مقدمتها النكوص عن المهمة والوقوع في كل تداعيات هذا النكوص.
إن النقد والتقويم والمراجعة والمعيارية، الذي جعله الله من أخص خصائص الأمة المسـلمة ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء [ ص: 14 ] على الناس ) (البقرة:143) ، هذا الجعل أصبح محرما ومحظورا على يد إنسان التخلف والنكوص في واقع الأمة، حيث تحولت القدسية من النص الإلهي المعصوم إلى الاجتهاد والفهم البشري المظنون.
فأصبح للاجتهاد والفهم البشري عظمة تحول بينه وبين النقد والمراجعة والتقويم والتصويب وإقامة العدل والصواب؛ وهذا بلا شك عطل الملكات، وأطفأ الفاعلية، وكرس الأخطاء، وأقعد الأمة عن أداء وظيفتها، التي جعلت لها في إقامة الحق وتأسـيس العدل والانضباط بقيم الكتاب والالتزام بالميزان، كما حاصر تنـزيل الشـريعة على واقع الناس وتصويب مسيرتهم؛ لأن الشريعة كما يقول ابن القيم -رحمه الله- عدل كلها، وحيثما تحقق العدل فثم شرع الله.
ولعل من الأمور البدهية، أن إحقاق الحق، وإقامة العدل، الوسطية (الجعل الوسط) من الله لهذه الأمة في الشهادة على الناس هو تكليف شرعي ودين من الدين -كما أسلفنا- ومسئولية أمام الله وأمانة عظمى تتجاوز الفهوم البسيطة لتكاليف العبادة وأبعاد العبودية ؛ لأنه العبادة الأعظم، وهي معايير وقيم ثابتة من الله ليست من وضع أحد، حتى لا تتحول قنطرة للتسـلط وتحقيق الرغبات والشـهوات وإيقاع الظلم والحيف؛ هي قيم ثابتة منـزلة ومتأتية من الله الخالق للناس جميعا، العالـم بمكوناتهم ورغباتهم وما يسعدهم، حتى يتساوى أمامها الناس جميعا، ويكون بعدها الحساب [ ص: 15 ] والثواب والعقاب من الذي يعلم السر وأخفى، وهذا يضمن لها الخلود والديمومة والاستمرار والرقابة الذاتية والحماية من التحريف والتبديل.
وقد تكون الإشكالية اليوم في تحول الكثير من هذه القيم العظيمة من دائرة الشعائر والفعل والممارسة والتجلي في حياة الناس وإقامة المئسسات ووضع البرامج وإبداع الأدوات والوسائل، التي تقيمها وتأصلها وتعمقها وتشيعها وتحقق الرقابة العامة لها والمسـئولية عنها، إلى شعارات ترفع في المناسـبات والأزمات وتسقط على واقع يملأه الظلم والحيف والاضطهاد وغياب العدل، حتى لنكاد نقول: إن هذه القـيم بدأت تفقد قيمتها وجدوى طرحها وتوظف من بعض الجماعات والطـوائف وفق رغباتها وكأنها لها – والأخطـر أنها قد تمارس تحت هذا الشـعار ألوانا من الظلم لا يليق بالعقلاء - بله للأمة بأسرها.
هذه من وجه، ومن وجه آخر أصبحت الوسـطية، التي هي مهمة جليلة ورسـالة عظيمة وسـبب خيرية الأمة والروح السـارية فيها والحياة الممتدة لحضارتها أصبحت لوحات وإعلانات وشعارات لمؤسسات وتوجهات وادعاءات تحتاج إلى أدلة، وهذا أخطر ما يواجه القيم الكبيرة من إجهاض وإحباط.
إن مصطلح « الوسطية » ليس مصطلحا هلاميا ولا نظريا ولا خياليا حتى يذهب فيه كل إنسان حيث شاء وبما شاء، فليس هو التعادلية التوفيقية التي دعا إليها بعض الكتاب والمفكرين، وليس هو الحياد السلبي، أو هو [ ص: 16 ] المحافظة على وضع الوسط المكاني بين طرفين كثمرة للعقل الهروبي من المسـئولية والفعل، وإنما هو مسئولية وتكليف وأمانة، ذو دلالة شرعية هي إطار مرجعي لفعل الإنسـان، يتطلب سلما من القيم، يرتكز بعضها إلى بعض، في مقدمتها الإيمان بالله والتوحيد، الذي يعني المسـاواة، التي تقتضي الحرية، والعدل، ومواجهة الظـلم والانحـراف والتحريف والتمييز ، وإيقاف التسـلط، وضبط النسـب، والتوازن، والاعتدال، والاسـتشعار بالمسئولية، والرقابة، وإعطاء كل ذي حق حقه، والسـهر على ذلك، والمسئولية عنه بإيمان واحتساب.
وقضية أخرى لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الوسطية التي تعني تأصيل العدل وإقامة العدالة لا تعني الانسحاب من المسئولية والخنوع والاستسلام والسلبية في التعامل مع قضايا الحياة ومشكلاتها، كما هو شأن ما يصطلح على تسميته بالحياد السلبي في القانون الدولي، وإنما هي حالة إيجابية فاعلة، تسعى لإقامة العدل ودفع الظلم والتعامل مع الأزمات بالوسائل المناسبة والملائمة والمجدية لتأسيس وإقامة العدل ودفع الظلم، التي تتطور وتتبدل بتطور وتبدل الإصابات وذلك بامتلاك الحكمة، وهي وضع الأمور بمواضعها، ووزنها بموازينها، والتعامل معها بالوسائل التي تتناسب مع طبيعتها واستحقاقاتها وتداعياتها، ذلك أن الافتقار إلى الحكمة في التعامل مع قضايا الحياة وإشاعة العدل وتأسيس دفع الحيف والظلم ينتهي إلى السوء، ويشـيع الفسـاد في الأرض، ونحن نتوهم الصلاح والإصلاح، حيث يزين [ ص: 17 ] لنا الشيطان أعمالنا فنصدقه فنضل، فنضع الندى في موضع السيف، ونضع السيف في موضع الندى.
يقول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
حيث لا بد من استحضار الكتاب والميزان، الكتاب والحكمة، فالحكمة هي الميزان الدقيق في النظر للأمور وكيفية التعامل معها، وبذلك تتحقق الوسطية ، فلا وسطية بدون قيم دينية (الكتاب) ، ولا وسطية وعدل وعدالة بدون الميزان الدقيق (الحكمة) .والكتاب الذي نقدمه اليوم، نعتقد أنه جاء في الوقت المناسب، بعد هذا العبث والفهوم المعوجة في التعامل مع القيم الإسلامية السامية ومحاولة إسـقاطها على واقع يسود الظلم والاستبداد السياسي ووقائع سلبية آثمة دون فقه وروية، حيث بتنا نرى التحريف الخطير، وهو الخروج بالمصـطلح أو بالمعنى عما وضع له اللفظ، ذلك أن الخطورة كل الخطورة أن يتم التحريف باسم الدين ومن بعض رجال الدين، الذين أصـبحوا يشكلون لونا من الكهانة وطبقة من الكهانة، ويوظفون الدين ويذللون قيمه لخدمة الظلم والطغيان، أو يسـتخدمون الدين ليأكلوا بقيمه ومبادئه، والله تعالى يقول : ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان [ ص: 18 ] ليأكلون أموال الناس بالباطل ) (التـوبة:34) ، حيـث العـلة تاريخيا إنما تولدت من الأحبار والرهبان (كهنة الدين) في تاريخ التدين.. فهل تسـربت إلينا علل الأمم السـابقة في هذا الزمن الرديء؟
وهل يستفز ذلك العلماء العدول، علماء الوسط (العدل) ، ليقوموا بواجبهم في إعادة الحق إلى نصابه وتأسيس قيم العدل وإقامة الكتاب والميزان فيحملون هذا العلم فينفون عنه (الخبث) اسـتجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالبين ) (أخرجه البيهقي ) ؟
إن محاولة ضبط المصطلحات، وتحديد الدلالات، واستقراء فقه التوسط، والتقعيد له، والتوفر على الإحاطة بعلمه من خلال مقاربته بفهم وفقه خير القرون ومخزون التراث والأحكام الفقهية والاجتهادات المتعددة في تراثنا الفقهي والمعرفي وتعاملنا الحضاري، والوقوف في وجه هذا العبث، الذي يستخدم هذا المصطلح ليساهم بصناعة فلسفة الهزيمة وتكريس التخلف وانطفاء الفاعلية، والحيلولة دون إعادة الحق إلى نصابه، وتجديد مسئولية الأمة ووظيفتها في الشهادة والقيادة، لهو اليوم من أجل الأعمال الفكرية البنائية والحمائية معا بعد هذه الموجة العابثة من الغلو والتعصب والتمييز والعنصرية وردود الفعل والعبث بالقيم الإسلامية ودلالاتها، ومحاولة تسييس هذه القيم وتذليل الأمة لصالح الهيمنة العالمية. [ ص: 19 ] ولا شك أن إقامة الحق ونشر العدل (الوسطية والاعتدال) تكليف وأمانة حملها الإنسان المسلم والأمة: ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) (الأحزاب:72) قبل أن تكون تشريفا ومكانة وافتخارا.
لذلك وحتى تستحق الأمة ميزة الشهادة على الناس وتصبح جديرة بها يوم القيامة وتشكل حجة يقضي الله بها في الثواب والعقاب للناس، فالأمر يتطلب أن تكون قامت بمهمة البلاغ المبين والبيان الواضح في الدنيا وحذرت من الظلم والحيف وتجاوز العدل، أما إذا لم تقم به في نفسها ومجتمعها وتقيم مؤسساته وأدواته وتشيع ثقافته وتربي على عظيم ثوابه فإنها تصبح غير مؤهلة للشهادة على الناس يوم القيامة؛ فالشهادة تلك تبنى مؤهلاتها في الدنيا من الاتسام بالوسطية والاعتدال وحمل رسالة النبوة من الكتاب والميزان.
ولعل من ميزات هذا الكتاب أيضا، أنه جاء على غير المألوف في التأليف والتبويب والتصنيف، حيث حاول المؤلف استقراء عدد من القواعد والضوابط وتوقف عندها بالنظر والشرح والاستنتاج والتأسيس والتأصيل لمفهوم « الوسطية »، أو مصطلح «الوسطية»، من خلال ميراثنا في الأثر (النص) وعطاء الفقهاء في الاجتهاد.
ولله الأمر من قبل ومن بعد [ ص: 20 ]