مراعاة السياق مأخذ لفهم القرآن الكريم على التوسط
هذا الضابط فصله الإمام الشاطبي ، رحمه الله، وتظهر أهميته في كونه مرشـدا ومحددا للفهم الوسطي للكتاب العزيز، إذ به يندفع الإشكال الوارد عن معنى « الفهم الوسـطي » وحقيقته بعد أن تبين أن تفسـير الكتاب لا يصح إلا على التوسط .
وإليك ما قاله في بيـان ذلك وتوضـيحه: «إذا تعين أن العدل في الوسـط فمأخذ الوسـط ربما كان مجهـولا، والإحـالة على مجهـول لا فائدة فيه، فلا بد من ضـابط يعول عليه في مأخذ الفهم. والقول في ذلك، والله المستعان:
أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل. وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المسـتمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكـلام وآخره، بحسـب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظـر في أولها دون آخـرها، ولا في آخـرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف.
فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم. فإذا صح له [ ص: 102 ] الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد، فعليه بالتعبد به. وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنـزيل، فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر..» [1] .
يرجع في هذا الموضع لكتب التفسير الموضوعي لمزيد من الشرح وبيان أهمية الوحدة الموضوعية.
قال العز بن عبد السلام ، رحمه الله: «السياق مرشد إلى تبين المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما، فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الاستعمال،
مثاله: ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) (الدخان: 49) ، أي الذليل المهان لوقوع ذلك في سياق الذم،
وكذلك قول قوم شعيب: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) (هود: 87) ، أي السفيه الجاهل لوقوعه في سياق الإنكار عليه،
وكذلك إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا لوقوعه في سياق ذمهم بإضلال الأتباع؛ وأما ما يصلح للأمرين فيدل على المراد به السياق كقوله تعالـى: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم: 4) أراد به عظيما في حسنه وشرفه لوقوع ذلك في سياق المدح،
وقوله: ( إنكم لتقولون قولا عظيما ) (الإسراء: 40) أراد به عظيما في قبحه [ ص: 103 ] لوقوع ذلك في سياق الذم؛ وكذلك صفات الرب المحتملة للمعاني المتعددة تحمل في كل سياق على ما يليق به كقوله: ( إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ) (الحج: 70) تمدح بسهولة في قدرته،
وكذلك قوله ذلك: ( حشر علينا يسير ) (ق: 44) ،
وأما قوله: ( فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ) (النساء: 30) ،
وقوله: ( يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ) (الأحزاب: 30) ،
فإن المراد في هاتين الآيتين احتقار المعذب وعنته، وإنما جاز ذلك لأن من هان عليك سهل عليك عذابه وعنته، ومن عز عليك صـعب عليك مصابه ومشقته، وإنما حمل على الاستهانة؛ لأنه لا يصلح من الرب التمدح بالقدرة على تعذيب امرأة أو رجل إذ التمدح من الرب بأدنى الصفات قبيح في عرف الاستعمال، ولذلك يقبح أن يقال: سيبويه يعرف أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، والشافعي يعرف مسألة إزالة النجاسة، وجالينوس يعرف أن الصفراء حادة يابسة، وكذلك العزيز في أوصاف الرب سبحانه يطلق بمعنى الغالب القاهر، ويطلق بمعنى الممتنع من العيب والضـيم، ويطلق بمعنى الذي لا نظير له، ويحمل كل سياق على ما يليق به» [2] . [ ص: 104 ]