العمل بالظواهر بعيد عن مقصود الشارع، وإهمالها إسراف
هذه القاعدة أصل في الموازنة بين ظواهر النصوص وألفاظها من جهة وبين معانيها ومقاصدها من جهة ثانية، ولعل أكثر المسائل التي اختلف بسـببها المختلفون في تاريخ الأمة هي هذه المسـألة، أعني إعمال الظاهر أو إعمـال المعنى ومقدار الإعمال فيهما، ويكفي أن نشـير في هذا المقام لما حصل من نـزاع وتنافر وتباعد في تاريخ الإسلام بين اتجاه الظاهرية المراعين للألفاظ بإطلاق وبين اتجاه أهل الرأي والقياسيين المراعين للمعاني والحكم وتقديمها على اللفظ بإطلاق.
ومن هنا فأهمية هذه القاعدة في الوسطية بالاحتكام إليها، وفي موازنتها بين الفريقين أو الرأيين باعتبارها منطـقة تلاق، أهمية كبرى، وهو ما أسس له الإمام الشافعي ، رحمه الله، وسار على منواله جماهير أهل الفقه من بعده، ولعل المذهب المالكي كان أوفرهم حظا في ذلك إذ روعيت فيه الألفاظ ومقاصد المكلفين كما روعيت العلل والمصالح حتى اتهم بذلك في بعض فتراته، وقد عبر الإمام الشاطبي ، رحمه الله، عن هذا المعنى وصاغه في شكل قانون يرجع إليه في تفسير النص الشرعي، وعنه أخذنا هذه القاعدة.
فإذا تأملت حال الناس في تفهمهم للقرآن وتفسيرهم له على هذه الوسيلة وجدتهم طرفين ووسطا، وهذا ما نص عليه الشاطبي وعقد له المسألة الثانية عشرة [ ص: 97 ] من كتاب الأدلة فقال: «ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال: إما على الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فالذين أخـذوه على التفريط قصـروا في فهم اللسـان الذي جاء به، وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا، ولا إشـكال في اطراح التعويل على هؤلاء، والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصـروا في فهم معانيه من جهة أخرى» [1] ، ومراده بالجهة الأخرى أنهم أفرطوا في جلب مباحث اللغة حوله زيادة عما يقصده العرب في مخاطبتهم مما لم ينظر بمثله السلف فيه، كالمحسنات اللفظية وادعاء أنه ذكر لفظ كذا دون مرادفه بقصد كذا [2] .
ومن الأمثلة التي أوردها الشاطبي للتقصير في فهم اللسان وتفسير القرآن على تأويلات لا تعقل ولا يعرفها العربي: دعوى جواز نكاح الرجل تسع نسوة حرائر استدلالا بقوله تعالى:
( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) (النساء: 3) ،
إذ لا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع، ومثل هذا أيضا: من يرى شحم الخنـزير وجلده حلالا، لأن الله تعالى قال:
( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) (المائدة: 3)
مع أن لفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس [3] . [ ص: 98 ] ومن هذا القبيل: تفسيرات الباطنية فإنها لا تصح على مقتضى الظاهر المقرر في اللسان العربي، كما أنها لا يشهد لها النص أو شاهد في محل آخر، فصارت دعاوى مجردة غير مقبولة، وذلك كتفسيرهم الغسل بتجديد العهد على من فعل ذلك، و «الكعبة» بالنبي، والطواف سبعا بأنه الطواف بمحمد صلى الله عليه وسلم ، إلى تمام الأئمة السبعة، إلى سائر ما نقل من خطابهم الذي هو عين الخبال وضحكة السامع، نعوذ بالله من الخذلان [4] .
وإذا كان التفريط في مثل هذا واضحا بينا، فإن السؤال يتوجه عن بيان ما نحتاج إليه من مباحث العربية مما لا نحتاجه كي لا نقع في دائرة الإفراط، وهنا يسعفنا الشاطبي بضابط المسألة: خدمة المعنى المراد -من النص- من عدمه، إذ كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة بل التفقه في المعبر عنه والمراد به [5] .
ومما يتصل بهذه المسألة وينبني عليها: مما من شأنه أن يحقق التوسط في فهم القرآن الكريم، ما كان قرره قبل هذا من أن «العمل بالظواهر على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع، وأن إهمالها إسراف أيضا» ، فهذه القاعدة كما هو ظاهر منها تلزم المكلف تجنب الجمود على المنقولات دون إمعان النظر في معانيها، كما توجب أيضا عدم تجاوز الألفاظ ومدلولاتها [ ص: 99 ] اللغوية المتبادرة، بحيث يصل الأمر إلى حد إهمالها. فالمطلوب في « الفهم الوسطي » لمدلولات النصوص بناء على هذا التقرير أمران:
- الأول: اعتبار المباني.
- والثاني: اعتبار المعاني.
بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يؤدي اعتبار أي من الطرفين إلى إهمال الآخـر. وهذا ما قرره في موضـع آخر، حيث قال في وجوب اعتبار كلا الأمرين وإعمالهما في فهم النص: «أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس -أي النص بالمعنى- لتجري الشـريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسـخين» [6] ولاحظ قوله: «وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسـخين» ففيه إشـارة إلى أنه المنهج السـديد في فهم النص والوقوف على الحكم.
ومن الأدلة التي ساقها لتقرير هذا المنهج الوسطي، قوله في وجوب اعتبار الألفاظ ومدلولاتها اللغوية بحسـب أصلها الوضعي: «إن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل، فقد علمنا أن حد الزنى مثـلا لمعنى الزجـر بكونه في المحصـن الرجم دون ضـرب العنق، أو الجلد إلى الموت أو إلى عدد معلوم، أو السـجن أو الصوم أو بذل مال [ ص: 100 ] الكفارات، وفي غير المحصـن جلد مائه وتغريب عام، دون الرجم أو القتل أو زيادة عدد الجلد على المائة، أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل، هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصـوص دون غيره، وإذا لم نعقل ذلك -ولا يمكن ذلك للعقول- دل على أن فيما حد من ذلك مصـلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحكم في سـائر ما يعقل معناه» [7] .
ومن الأدلة على وجوب اعتبار المعاني دون الوقوف عند ظواهر الألفـاظ، دليل الاسـتقراء، كما يبين ذلك الإمام الشـاطبي، رحمه الله، من خلال تصفح نصـوص كثيرة تفيد معان أخرى غير الذي تفيده ألفاظـها، وذلك مثل: ( اكلفوا من الأعمال ما لكم به طاقة ) [8] ، فإن مقصـوده الرفق بالمكلف خشـية العنت أو الانقطاع عن العبادة، أو ترك الدوام على التوجه لله.
وقوله تعالى: ( فاسعوا إلى ذكر الله ) (الجمعة: 9) ،
فإن مقصده الحفاظ على إقـامة الجمعة وعدم التفريط بها، لا الأمر بالسعي إليها فقط ... إلخ من الأمثلة والنماذج التي لا تحصى في هذا الباب. [ ص: 101 ]