هذه القاعدة بيان لمآل التشديد على النفس، وهي تأكيد لكراهية الإسلام لأتباعه أن يشددوا على أنفسهم، كما قد مضى بيانه، والأصل فيها ( قوله صلى الله عليه وسلم : إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) [1] .
قال الحافظ ابن حجر ، رحمه الله، في شرح هذا الحديث: «والمشادة بالتشديد المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد : ( إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة ) [2] ، وقد يستفاد من هذا الإشارة [ ص: 166 ] إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر» [3] .
( وروى أبو برزة الأسلمى رضي الله عنه ، قال: خرجت يوما أمشي فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم متوجها فظننته يريد حاجة، فجعلت أخنس عنه وأعارضه، فرآني فأشار إلي فأتيته، فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعا، فإذا نحن برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتراه مرائيا؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فأرسل يدي ثم طبق بين كفيه فجمعهما وجعل يرفعهما بحيال منكبيه ويضعهما ويقول: عليكم هديا قاصدا، ثلاث مرات، فإنه من يشاد الدين يغلبه ) [4] .
قال علي بن غنام : كلا طرفي القصد مذموم، وأنشد أبو سليمان:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
[5] وقال ابن عبد البر : قال سفيان بن حسين : أتدري ما السمت الصالح؟ ليس هو بحلق الشـارب ولا تشـمير الثوب، وإنما هو لزوم طريق القوم، إذا فعل ذلك، قيل قد أصاب السمت، وتدري ما الاقتصاد؟ هو المشي الذي ليس فيه غلو ولا تقصير [6] . [ ص: 167 ]