الشريعة هي المرجع في أحكام الظاهر، كما أنها المرجع في أحكام الباطن
هذه القاعدة وإن كانت من مقتضيات الإيمان بالله وتوحيده والتسليم له سبحانه، إلا أن العلماء قد اضطروا للنص عليها لما أن أحدث بعض المتصوفة القول في الدين بأنهم يتلقون ويأخذون العلوم والمعارف بالتلقي مباشرة عن الله، وأنهم لا تتناولهم ظواهر الشريعة بما تحقق لهم من الترقي في المقامات وما شـاهدوه من التجليات.. إلخ ذلك من الخرافات والخزعبلات التي زينها لهم الشـيطان، وقد كان أسـلافهم الأوائل لا يقبلون قضـية إلا إذا شهد لها حكمان من الكتاب والسنة.
وإليك ما ذكـره بعض العلماء في مسألة تمييز هؤلاء وتفريقهم بين الحقيقة والشريعة، فقد أعرضوا عن ظواهر الشرع، وهذا غلط؛ لأن الشريعة كلها حقائق: قال الحسن بن سـالم : جاء رجل إلى سهل بن عبد الله التستري وبيده محبرة وكتاب، فقال لسـهل: أحببت أن أكتب كتابا ينفعني الله به، فقال: أكتب إن اسـتطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة فافعل، فقال: يا أبا محمد، أفدني فائدة، فقال: الدنيا كلها جـهل إلا ما كان علما، والعلم كله حـجة إلا ما كان عملا، والعمل موقوف إلا ما كان على السنة، وتقوم السنة على التقوى [1] . [ ص: 186 ] وقال أبو سعيد الخراز : كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل [2] . . وقال أبو بكر الدقاق : كنت مارا في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
وقال أبو عقيل : جعلت الصوفية الشريعة اسما وقالوا: المراد منها الحقيقة، قال: وهذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق وتعبداتهم، فما الحقيقة بعد هذا سوى واقع في النفوس من إلقاء الشياطين؟ وكل من رام الحقيقة من غير الشريعة فمغرور ومخدوع، ومنها أن يدخل عليهم الشيطان لجهلهم، فيقول لهم: اعلموا أنكم لن تنجوا في الآخرة إلا بكثرة العمل، وترك الدنيا، وترك الاشـتغال. فيخرج أحدهم على وجهه ويفارق الجمعة والجمـاعة والعلم؛ وربما كانت له عائلة أو والدة فبكت لفراقه؛ وربما أنه لم يعرف أركان الصلاة كما ينبغي؛ وهذا لقلة علمه ورضاه عن نفسه بما يعلمه. وهذا خطأ عظيم، فإن مفارقة الجمعة والجماعة حرام وخسران ظاهر، وتعلم العلم فرض، والبعد عن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل، وتضييع المال منهي عنه، والدنيا لا تذم لذاتها، وكيف يذم ما من الله تعالى به وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في الإعانة على تحصيل العلم والعبادة، وإنما المذموم على طلب الدنيا أخذ الشيء من غير حلم، وتناوله على وجه السرف، لا على مقدار الحاجة، وتصرف فيه بمقتضى رعونات النفس، لا بإذن الشرع. والخروج إلى الجبال منفردا منهي عنه، قال بعض السلف: خرجنا إلى جبل نتعبد فيه فجاءنا سفيان الثوري، فردنا [3] . [ ص: 187 ]