المبحث الثالث
دور الوقف في التشغيل
لقد ساهمت الأوقاف في تنمية المجتمع وارتقائه من خلال الدور الذي اضطلعت به في تقديم الدعم المباشر وغير المباشر للنشاط الاقتصادي، حيث للوقف آثار اقتصادية واضحة يمكن ملاحظتها في جوانب شتى، إما بصورة مباشرة مثل: إقامة الجسور والروابط (البنى الارتكازية) ، وتوفير فرص العمل للآخرين ومحاولة إخراج فئات كثيرة من المجتمع من دائرة الفقر، وإما بصورة غير مباشرة وذلك مثلا من خلال توفير الخدمات لرواج التجارة وضبط الأسعار، كما سنرى لاحقا.
فقد ساعد الوقف على مد الطرق وتعبيدها، والقناطر وإصلاحها. وذكر آنفا ما تقوم به الأوقاف من حفر للآبار وشق للسواقي لمد الأراضي الزراعية بمتطـلبات المياه. (ووجدت أوقاف على القناديل، لتنير شوارع المدن ليلا للعابرين، ووجدت أوقاف لصيانة الترع والأنهار) [1] . مما يوضح الدور الذي اضطلعت به الأوقاف من أجل توفير ما يسمى في عصرنا الحالي بـ (البنى التحتية) . [ ص: 185 ] وهناك الأموال الموقوفة على استثمـارات صناعية أو زراعية أو تجارية أو خدمية، لا تقصد بالوقف لذواتها، ولكنها إنما يقصد منها إنتاج عائد إيرادي صاف يتم صرفه على أغراض الوقف. فالأملاك الاستثمارية في هذه الحالة يمكن أن تنتج أي سلعة أو خدمة مباحة لطالبيها في السوق وتستعمل إيراداتها الصافية في الإنفاق على غرض الوقف [2] ، إضافة إلى دوره في توفير فرص عمل للآخرين.
وقد ساعد الوقف الذي خصص لأحواض المياه التي تقع على الطرق التجارية المهمة، في رواج النشاط الاقتصادي على هذه الطرق، فالقوافل التجارية في الماضي كانت تعتمد على آبار المياه لسقي المسافرين والدواب، وبذلك أتيح لها أن تواصل سفرها وتنقلها بين المدن والقرى للبيع والشراء. وكانت هناك أوقاف خاصة بما يعرف بالوكالات التجارية الخارجية، فهي تعمل على استيراد السلع، وانتقالها من قطر إلى آخر، كما كانت هناك أوقاف على السفن التي تحمل البضائع من بلد إلى بلد، وحتى لا تضل هذه السفن طريقها ولا تدخل الموانئ غير المقصودة حبست أموال على إنارة الفنارات من بعد آذان المغرب حتى طلوع الفجر [3] . [ ص: 186 ] من جهة أخرى ساهمت الأوقاف في توفير «دخول» لفئات عديدة من المجتمع لم يكونوا ليحصلوا عليها لولا الوقف، وساعدت هذه الدخول في توفير طلب على السلع والخدمات مما نشط الأسواق وحد من ظاهرة الركود. فقد كان الإنفاق على القيام باحتياجات العجزة والزمنى والأرامل والبنات اللائي ليس لهن ولي، وما شاكل ذلك.
إن الدخول التي أوجدتها الأوقاف ساعدت في عملية إعادة توزيع الدخل، حيث نقلتها من الأغنياء إلى الفقراء، وبالتالي تم تقليص الفجوة بين فئات المجتمع.
كما برزت مسـاهمة الوقف في تنشيـط الجـانب الاقتصادي في عملية ضبـط الأسعـار واستـقرارها؛ وذلك لأن الأسواق التي حبست عليها الأموال لإصلاحها، كانت تيسر للتجـار الحصول على إيجارات مخفضة للمحـال التجارية، مما سـاعد على أن تكون أسعـار السـلع أدنى من مثيلاتها في الأسواق التي لا وقف لها، فكان الإقبال أكثر على الشراء من الأسواق الموقوفة، وأدى ذلك إلى نشاط الحركة التجارية في هذه الأسـواق، مما دفع غيرها إلى أن تسـلك سبيـلها في ضبط الأسـعار حتى لا يكسد عملها [4] . [ ص: 187 ]