- المطلب الرابع: تنمية استثمارات الوقف:
إن إعادة الوقف إلى دوره الفاعل كقطاع ثالث متميز في كل من الحياة الاقتصادية والاجتماعية ليست بالأمر المستحيل، إذ طالما مارس هذا القطاع دوره المتميز لقرنين خليا في معظم الأقطار العربية والإسلامية. فقد بلغت مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة حوالي ثلث الأراضي المزروعة في مصر مطلع القرن التاسع عشر [1] ؛ ولم تكن الأراضي الزراعية الموقوفة في تركيا [ ص: 194 ] لتقل عن ثلث مجموع الأراضي الزراعية عند تحويلها إلى الجمهورية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين، وبلغت مثل ذلك القدر الكبير من مجموع الثروة القومية في سورية وفلسطين والعراق والجزائر والمغرب وفي منطقة الحجاز في السعودية [2] .
إن الارتقاء بالوقف يتطلب توفر المقومات الآتية:
1- إرساء الأسس المؤسسية في الأموال الموقوفة:
نشأت المؤسسة وتطورت في البلدان الغربية منذ قرون ثلاثة ماضية. وأهم ما يميز المؤسسة من غيرها هو:
أ- الشخصية القانونية المستقلة.
ب- المسؤولية المحدودة.
ج- عدم تقييدها بالإطار الزمني.
د- تداول أسهمها.
هـ- ضخامة عدد المنتمين إلى الشركة.
و- الفصل بين الإدارة والملكية.
ومن الجدير بالملاحظة أن بعض خصائص المؤسسة تكاد تتطابق مع خصائص الوقف، فالذمة المالية المستقلة يجب توافرها في المؤسسة وكذلك الوقف. وتمتاز هذه الذمة باستقلاليتها عن ذمة المدير عند كلا الجهتين. وكما أن المؤسسة تفصل ما بين الإدارة والملكية كذلك يفصل الوقف بين [ ص: 195 ] الواقف والناظر. وتبقى كل من المؤسسة والوقف غير محددين بعمر إنتاجي أو خدمي، بل أن طبيعة عمل المؤسسة المتمثل في وجود مجموعة من الأموال تدار لتحقيق هدف إنتاجي أو تجاري أو اجتماعي معين، يشبه الوقف الذي يستثمر ماله من أجل تحقيق فائض يوزع على الموقوف عليهم [3] .
يترافق مفهوم المؤسسة مع مفهوم الشركة المساهمة، الذي يؤدي إلى دوام التطور واكتشاف الفرص الاستثمارية الجديدة، بحيث يستفيد منها من يمتلك مدخرا بسـيطا يمكنه من شراء أسـهم محددة، أو ذلك الشخص، الذي يمتلك الأموال إلا أنه لا يجيد اسـتثمارها أو لا يملك الوقف لذلك. هذه الخاصية يمكن إسقاطها على الأوقاف من خلال إمكانية جمع الأموال الوقفية البسيطة في إطار مؤسسة واحدة، أو وقف الأموال الضخمة وتهيئة الكادر اللازم لإدارتها وديمومتها.
تعد المؤسسية من أهم العناصر التي كفلت فاعلية نظام الوقف في الممارسة العملية، وقد تجلت أهمية هذا العنصر منذ البدايات الأولى لنشأة الوقف، وكان من الطبيعي في تلك البدايات الأولى أن تتسم المؤسسية بالبساطة والبعد عن التعقيد ومحدودية العلاقات التنظيمية والإدارية، ثم تطورت بمرور الزمن [4] . [ ص: 196 ]
2- تعديل الأنظمة الضريبية المتعلقة بالوقف:
تستخدم مختلف دول العالم الضريبة عنصرا رئيسا وموردا مهما لتمويل إنفاقها وتمويل أجهزتها المختلفة، ومع ذلك فإن للضريبة أهدافا أخرى وأغراضا شتى تناولتها كتب المالية العامة بالتفصيل ولا مجـال لسردها هنا، إلا أن الذي يهمنا هو الإعفاءات أو الاستثناءات أو التخفيضات، التي ترافق النظم الضريبية ودورها في تعزيز نشاط قطاع معين أو فرع معين أو فئة محددة. وقد انتبهت الدول الغربية لذلك، الحالة فأعفت المؤسسات الوقفية من الضرائب بشكل تام أو تم تخفيض الضرائب عليها إلى الحدود الدنيا بغية زيادة هذه المؤسسات والارتقاء بعملها.
والحق يقال: إن الإسلام كان هو الرائد في هذا المجال، إذ حث على أن الوقف صدقة جارية فلا تؤدى الزكاة عنه، فلا صدقة على الصدقة، يدل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله؛ وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله؛ وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها ) [5] ، فليس على خالد شيء؛ لأنه وقف عبيده ودروعه في سـبيل الله، الأمر الذي يتطلب ضرورة مراجعة القـوانين الضـريبية في [ ص: 197 ] الـدول الإسـلامية، بحيث تحدد منها إعفاءات أو استثناءات للأموال الموقوفة، إذ أنه بفضل هذه الإعفاءات تتحقق أهداف اجتماعية واقتصـادية كثيرا ما تحرص عليها الحكومات وتتطابق مع الغرض المنشـود من تلك الضرائب.
وقد أشارت الوقائع إلى أن البلدان التي تجود قوانينها بهذا النوع من الإعفاءات يكثر فيها العطاء لوجوه البر، العام والأهلي معا، في حين نرى عكس ذلك في البلدان التي لم تتوسع فيها الإعفاءات الضريبية [6] .
إن تعديل النظم الضريبية بشأن الأوقاف يمثل نوعا من رعاية الدولة لهذه الأجهزة، يجب أن يتسع ويمتد إلى جوانب أخرى لا تقتصر على ذلك فقط.
3- النمو المضطرد في أدوات الاستثمار:
حققت الأدوات الاستثمارية تطورا كبيرا وسريعا خلال العقدين الأخيرين من القرن المنصرم، حيث ظهرت أشكال وأوعية استثمارية جديدة، لم تكن معروفة سابقا، وهي تتطور يوما بعد آخر.
إن عمليات الابتكار والتجديد في عالم تكنولوجيا الاستثمار صارت فنا تخصص له الأسواق المالية الكبيرة الفنيين المتخصصين، وتجند له العلماء المتفرغين، حتى أنهم ليسمونها (منتجات) استثمارية أو مالية أو مصرفية. وشيوع وكثرة وتنوع هذه المنتجات أدى كله إلى تيسير اتخاذ قرار الاستثمار المالي لنظار أو متولي الأوقاف الخيرية أو الذرية على حد سواء [7] . [ ص: 198 ]