1- عوامل عولمة نظم التربية العربية:
تضافرت جملة من العوامل والقوى القديمة والجديدة، التي أدت وتؤدي إلى عولمة نظم التربية في البلاد العربية، شأنها شأن بلدان العالم الثالث. ويمكن إيجازها وفق المحورين الآتيين:
أ. العوامل القديمة، التي أسست اللبنة الأولى لوضع التربية العربية في طريق العولمة:
وهي العوامل التي نشأت من مسيرة تحديث نظم التعليم أثناء عهود هيمنة الاستعمار التقليدي على المنطقة العربية، وأسست القواعد أو الشروط الأولى، التي هيأت الظروف المحلية لعولمة نظم التربية العربية.
فمنذ الموجات الاستعمارية الغربية على الوطن العربي أخذت الدول الاستعمارية تكثف جهودها لنشر أنماط التعليم الأوربية في المناطق العربية المحتلة، بل عمدت إلى نشر هذه الأنماط قبل مجيئها؛ حتى توجد جماعات تتقبله وتناصره [1] ، حيث ركزت سلطات الاحتلال في بداية الأمر على إنشاء المؤسسات التعليمية التي تلبي احتياجاته، بالتزامن مع دعم المؤسسات التعليمية الخاصة بأبناء الجاليات الأجنبية، وأبناء الأقليات المحلية، ثم بأبناء الفئات الغنية؛ حتى تكون هذه المؤسسات التعليمية نماذج متميزة يحتذى بها. [ ص: 146 ] وعلى غرار هذه المؤسسات التعليمية عمدت السلطات المحتلة إلى إنشاء مؤسسات تعليمية لأبناء الزعامات المحلية والنخب السياسية لتربيتهم التربية المواكبة لثقافة المستعمر.
وما لبثت أن صارت هذه الأنماط التعليمية توجها عاما يتبناه السكان والسلطات المحلية؛ رغبة منها في الأخذ بأسباب التقدم، وتلبية الحاجات المتزايدة لمخرجات هذا التعليم اللازمة للقطاع الحديث، الذي نشأ في الحضر على غرار نمط التنمية الرأسمالية السائد في أوربا -لتنتشر بعد ذلك أنماط التعليم الغربي هذه في المنطقة العربية بعد زوال الاستعمار، وتقسيمها إلى كيانات مستقلة- بوصفه نهجا وأسلوبا طاغيا تلتزم به الدول والسكان وكأنه قدر محتوم.
وعلى كل حال، يمكن إيجاز هذه العوامل القديمة، الخارجية والداخلية، على النحو الآتي:
- تولت الدول الاستعمارية نشر أنماطها التعليمية في البلاد العربية بسلم تعليمي تقليدي، فكرا وتنظيما وإدارة، شكلا ومضمونا، بما في ذلك مؤسسات التعليم الجامعي، وبذلك تأسست قواعد تحديثها.
- شجعت ومولت كثيرا من مؤسسات التعليم، الخاصة بالجاليات الأجنبية والأقليات المحلية في البلاد العربية؛ حتى تظل مصدرا أو مرجعية لتطوير المؤسسات التعليمية الأخرى. [ ص: 147 ]
- جعلت نظم التعليم ومؤسساته في البلاد العربية تعتمد في محتوى العديد من الكتب الدراسية والأساليب والأنشطة السائدة على الدول الاستعمارية؛ مما صعب تخلصها من تبعيتها لها.
- ركزت على نشر الأنماط التعليمية الغربية في المدن العربية؛ كي تلبي احتياجات القطاع الحديث (التجارة، الإدارة والخدمات، الصناعات الثانوية) فارضة بذلك نمط التنمية الرأسمالي، الذي بدوره ربط التنمية بالخارج وخدمته، وتهمش القطاع التقليدي الذي يعيش عليه أغلب السكان.
- احتضان النخب التربوية والسياسية والفكرية الموالية للدول الاستعمارية، وتحصين مواقعها بكل السبل؛ حتى تتولى استمرار الأنماط التعليمية الغربية في البلاد العربية، والدفاع عن أساليب الحياة الغربية.
- شجعت الدول الغربية الاستعمارية -خصوصا- استقدام البعثات التعليمية من البلاد العربية؛ لضمان تبني قوى التجديد فيها لمؤثرات الثقافة الغربية، واستمرار اعتماد نظم التعليم العربية على نظم التعليم الغربية.
- استغلال الدول الرأسمالية الكبرى القروض والمساعدات المادية والفنية التي تحتاجها العديد من البلاد العربية لتوجيه نمو أنظمتها التعليمية في الاتجاهات المواكبة للثقافة الغربية.
أما داخل البلاد العربية فقد كان طبيعيا -في ظل أنظمة الحكم الموالية للدول الاستعمارية- استمرار الأنماط التعليمية القائمة، فضلا عن انبهار التربويين والسياسيين بالحضارة الغربية، كمن فتح عينه على قرص الشمس، [ ص: 148 ] ولم يعد بمقدورهم النظر إلى ماضي التربية العربية، فحصل قطع تاريخي فصل ماضي التربية العربية عن حاضرها ومستقبلها؛ تربية تنقطع عن تاريخها وتفقد أصولها ويتوه عقلها.
ولضمان سيادة الدول الرأسمالية الكبرى على الوطن العربي واستمرار تبعيته لها، وحتى تكفل عولمة التربية العربية عملت على:
- تجزيئ الوطن العربي إلى كيانات سياسية على أسس طائفية ومذهبية وسلالية، وإذكاء الخلافات والصراعات الحادة بينها.
- ربط اقتصاديات البلاد العربية باقتصاديات الدول الغربية، الذي تم في عهود السيطرة الاستعمارية، وجعلها في حالة تبعية لها، ولم تعد قادرة على الفكاك منها.
- فرض نمط تنموي رأسمالي مشوه في البلاد العربية أخل بالتنمية المتوازنة؛ كونه قسم التنمية بين حضر (قليل السكان) وتتجه نحو الخارج وتتبعه، وريف (كثيف السكان) متخلف يهمش لصالح الحضر.
- زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية؛ لبقاء حالة التمزق والتشرذم عند العرب، وإجهاض أي مشروع تنموي، أو وحدوي.
ب- العوامل الجديدة، التي تعولم نظم التربية في البلاد العربية:
وهي العوامل والقوى الناتجة عن عولمة النظام الرأسمالي، على مستوى البلاد العربية وبقية دول العالم والتي تتزايد قوة وتأثيرا؛ كلما تضاعفت التغيرات العالمية، واتسعت سطوة الدول الرأسمالية الكبرى، واشتد خوفها من الإسلام والمسلمين. ولعل من أبرزها: [ ص: 149 ]
- تستخدم الدول الرأسمالية الكبرى المساعدات والقروض والمنح المقدمة لأغـلب البلاد العربية لتوجيه نظم التربية العربية في المسارات المواكبة للعولمة.
- تقدم الدول الرأسمالية الكبرى شتى التسهيلات لاستمرار تبعية نظم التربية العربية لما تنتجه نظم التربية الغربية من نظم وتنظيمات، ومن معرفة ومعلومات، ومن أساليب ووسائل حديثة؛ حتى كادت تسير في ظلها من النواحي الشكلية.
- تتذرع الدول الرأسمالية الكبرى بالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها لابتزاز البلاد العربية وإخضاعها لإملاءاتها الصريحة والضمنية.
- تفرض المنظمات الدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الشروط المجحفة على البلاد العربية لتطوير نظم التعليم في الاتجاهات المناسبة للتغيرات العالمية.
- اعتماد نظم التربية في البلاد العربية -على نحو متزايد- على تقنيات الاتصالات والمعلومات والإعلام في التعلم والتعلم، وفي القيام بوظائف العمل التربوي.
- أوجدت تقنيات الوسـائط المتعددة نظـم تعليم وتعلم تقلص أدوار المؤسسات التعليمية، وتتغلب عليها في أحيان كثيرة، وصارت تكون بيئات تربوية غنية، تتجاوز حـدود الزمـان والمكان، وتلبي الاحتياجات المتباينة للسكان. [ ص: 150 ]
- قلصت وسائل الإعلام، أو الوسائط المتعددة -الفائقة السرعة- عملية التواصل التقليدية، وفرضت استخدام لغة سمعية بصرية معقدة للتعامل مع المعلومات عن طريق الصور والأشكال والأصوات.
- تنفق الدول الرأسمالية الكبرى، والمنظمات الدولية، ومنظمات المجتمع المدني الغربية أموالا طائلة على لجان تطوير نظم التعليم في البلاد العربية، وكذا تمويل المؤتمرات والندوات العلمية..الخ.
- فرضت عولمة النظام الرأسمالي العالمي في البلاد العربية التوسع -وعلى نحو متزايد- في مؤسسات التعليم الخاصة، يتولاها القطاع الخاص ضمن مشاريعه، سواء المحلي أو الخارجي؛ بقصد تحقيق الربح قبل أي شيء آخر.
- استجابت كل البلاد العربية تقريبا لضغوط العولمة في تطوير نظمها، فعززت مسيرة تحديث التعليم السابقة، واستمرت تستنسخ نظم التعليم الغربية بطريقة ببغاوية، وبتعديلات مست -في الغالب- الشكل.
- توظف الدول الرأسمالية الكبرى والشركات العابرة للقارات تقنيات الإعلام والاتصالات والمعلوماتية لاستهداف النشء والشباب؛ لنشر الثقافة الاستهلاكية، واختراق الثقافات القومية وإذابتها.
- تعمل الدول الرأسمالية الكبرى على الحيلولة دون تكون منظومة شاملة توثق العلاقة بين البحث العلمي والتقدم التقني في أنشطة المجتمع، [ ص: 151 ] سواء داخل كل دولة عربية، أو فيما بينها؛ بهدف إدماجها في منظومة الاستهلاك العالمي [2] .
- إغراء الباحثين وأسـاتذة الجامعـات بالمكافآت المادية المعتبرة لإجراء بحوثهم وتقديم تصوراتهم لتطوير نظم التربية العربية بطريقة تلائم متغيرات العولمة.
- استضافة الأجهزة الرسمية في الدول الرأسمالية الكبرى والجامعات ومراكز الأبحاث للقيادات التربوية في البلاد العربية بمختلف مستوياتهم؛ لإطلاعها على التطورات الجديدة في التعليم، حتى تكون مصدر إلهام لتجديد نظم التعليم في بلدانهم.
- تقدم المنظمات غير الحكومية في الـدول الغربية دعما ماديا أو فنيا أو سياسيا أو كليهما لمؤسسات تعليم الأقليات والجاليات الأجنبية بنوعية عالية في البلاد العربية؛ لتحقيق مآرب عدة منها: ضمان ولائها للخارج، وجعلها مواقع متقدمة للتبشير بالعولمة والدفاع عنها.
- صدور جمـلة من المواثيق والمعاهـدات الدولية التي تعمل على فرض أنماط الحياة الغربية في البلاد العربية والعالم الثالث، وإلزام الشعوب بتنفيذها، رغم أن العديد من بنودها تتناقض جذريا مع مبادئ الدين الإسلامي، نصا وروحا. [ ص: 152 ]
- نشأة فروع للمنظمات غير الحكومية والمؤتمرات الدولية في البلاد العربية، التي تتبنى وجهة نظر الدول الغربية حول قضايا الحريات، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والسلام، والتنمية..الخ، وتعمل -بعلم، وبدون علم- على تنميط الحياة الغربية، رغم أن الكثير مما تدعو إليه حق ومنشود، غير أنه حق يراد به باطل كما تؤكده الوقائع المشاهدة.
- شراء الشركات العملاقة لعدد من السياسيين والصحافيين بل والمفكرين في كل بلد عربي، للدفاع عن العولمة والتبشير بنعيمها.
ولدعم عوامل عولمة التربية في البلاد العربية برزت عوامل مجتمعية جديدة تدفع نحو تسريع عولمة التربية العربية، لعل أهمها:
- كرست العولمة حالة تشرذم البلاد العربية وتمزقها في دويلات متصارعة متناحرة؛ باعتبارها حقيقة تؤكدها شواهد الواقع العربي المعاش؛ لأن تفكيك جغرافية الوطن العربي أحدث قطعا لمسيرة التاريخ العربي المشترك، والتئامه؛ مما سهل إدماج هذه الكيانات في النظام الرأسمالي العالمي الجديد، والانصياع لأوامره، ليتحول بعد ذلك الصراع من الحضارتين (الغربية والإسلامية) إلى داخل الحضارة العربية الإسلامية.
- أذكت عولمة النظام الرأسمالي العالمي في البلاد العربية جملة من الثنائيات المتناقضة الحادة بين الطوائف المذهبية، والدينية، والعرقية، والقبلية، واللغوية، وبين الكيانات الاجتماعية التقليدية والحديثة، وبين المناطق، حضرا وريفا، فضلا عن تعميق حدة التمايزات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية [ ص: 153 ] الحادة بين فئات السكان، بصورة أثارت حدة الصراعات وأعمال العنف والجريمة، وأضعفت قدرة المجتمع وشلت قواه الفاعلة.
- تثير العولمة جملة من التباينات المتناقضة بين البلاد العربية في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإذكاء حدة الصراعات والعداء المستحكم؛ مما وسع من شقة الفرقة بينها، وقلل من فرص التئام الجسد العربي، بل ومن قيام علاقات تعاون وتكامل بينها.