فإن وصل الإقرار بما يفسده بطل كله ولم يلزمه شيء ، لا من مال ، ولا قود ، ولا حد - : مثل أن يقول : لفلان علي مائة دينار ، أو يقول : قذفت فلانا بالزنى ، أو يقول زنيت ، أو يقول : قتلت فلانا ، أو نحو ذلك - : فقد لزمه ، فإن رجع عن ذلك لم يلتفت .
فإن قال : كان لفلان علي مائة دينار وقد قضيته إياها ، أو قال : قذفت فلانا وأنا في غير عقلي ، أو قتلت فلانا ; لأنه أراد قتلي ولم أقدر على دفعه عن نفسي ، أو قال : زنيت وأنا في غير عقلي ، أو نحو هذا ، فإن هذا كله يسقط ولا يلزمه شيء ، والحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى - ذات الزوج ، والبكر ذات الأب ، واليتيمة فيما ذكرنا سواء - وإنما هذا كله إذا لم تكن بينة فإذا فلا معنى للإنكار ، ولا للإقرار - : روينا من طريق كانت البينة نا مسلم هداب بن خالد نا - نا همام - هو ابن يحيى عن قتادة : { أنس } أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين ، فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان ؟ فلان ؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة .
ومن طريق نا مسلم محمد بن رمح نا - عن الليث - هو ابن سعد ابن شهاب عن عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ، فذكر [ ص: 101 ] الحديث ، وفيه قول القائل : { أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت } فقتل عليه السلام بالإقرار ورجم به ، ورد به المال ممن كان بيده إلى غيره . إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا
وأما إذا وصل به ما يفسده فلم يقر بشيء ، ولا يجوز أن يلزم بعض إقراره ولا يلزم سائره ; لأنه لم يوجب ذلك قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع .
وقد تناقض ههنا المخالفون فقالوا : إن قال : له علي دينار إلا ربع دينار فهو كما قال - وإن قال : ابتعت منه داره بمائة دينار ، فأنكر الآخر البيع وقال : قد أقر لي بمائة دينار وادعى ابتياع داري ، فإنهم لا يقصون عليه بشيء أصلا - وهذا تناقض ظاهر .
وقال : من قال : أحسن الله جزاء فلان فإنه أسلفني مائتي دينار ، وأمهلني حتى أديتها كلها إليه ، فإنه لا يقضي لذلك الفلان عليه بشيء إن طلبه بهذا الإقرار . مالك
ولا يختلفون فيمن قال : قتلت رجلا مسلما الآن أمامكم ، أو قال : أخذت من هذا مائة دينار الآن بحضرتكم ، فإنه لا يقضي عليه بشيء - ولم يقولوا : إن أقر ، ثم ندم ، ولا أخذوا ببعض قول دون بعض ، وهذا تناقض ظاهر - : روينا من طريق عن عبد الرزاق عن معمر الزهري عن أن رجلا استضاف ناسا من القاسم بن محمد بن ، أبي بكر الصديق هذيل فأرسلوا جارية تحتطب فأعجبت الضيف فتبعها فأرادها فامتنعت ، فعاركها فانفلتت فرمته بحجر ففضت كبده فمات ، فأتت أهلها فأخبرتهم ، فأتوا فأخبروه ؟ فقال عمر بن الخطاب : قتيل الله لا يودى والله أبدا ؟ ومن طريق عمر عن حماد بن سلمة ، ثابت البناني وحميد ، ، كلهم عن ومطرف عبد الله بن عبيد بن عمير قال : غزا رجل فخلف على امرأته رجل من يهود ، فمر به رجل من المسلمين عند صلاة الفجر وهو يقول : [ ص: 102 ]
وأشعث غره الإسلام مني جلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويمسي على جرداء لاحقة الحزام
كأن مجامع الربلات منها قيام ينهضون إلى فئام
ومن طريق نا محمد بن المثنى نا عبد الله بن إدريس الأودي عاصم بن كليب عن أبيه عن قال أتيت وأنا أبي موسى الأشعري باليمن بامرأة فسألتها ؟ فقالت : ما تسأل عن امرأة حبلى ثيب من غير بعل ، أما والله ما خاللت خليلا ولا خادنت خدنا ، مذ أسلمت ، ولكني بينما أنا نائمة بفناء بيتي ، فوالله ما أيقظني إلا الرجل حين ركبني وألقى في بطني مثل الشهاب ؟ فقال : فكتبت فيها إلى فكتب إلي : أن وافني بها وبناس من قومها ؟ فوافيته بها في الموسم ، فسأل عنها قومها ؟ فأثنوا خيرا ، وسألها ؟ فأخبرته كما أخبرتني ، فقال عمر بن الخطاب : شابة تهامية تنومت قد كان ذلك يفعل ، فمارها عمر وكساها ، وأوصى بها قومها خيرا - هذا خبر في غاية الصحة . عمر
ومن طريق عن حماد بن سلمة عامر بن أبي الحكم عن الحسن : أن رجلا رأى مع امرأته رجلا فقتله ، فارتفعوا إلى بن عفان فأبطل دمه . عثمان
ومن طريق عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، سعيد بن المسيب ، قالا جميعا : إن رجلا أتى امرأة ليلا فجعلت تستصرخ فلم يصرخها أحد ، فلما رأت ذلك قالت : رويدك حتى أستعد وأتهيأ ، فأخذت فهرا فقامت خلف الباب ، فلما دخل ثلغت به رأسه فارتفعوا إلى وسليمان بن يسار ، فأبطل دمه . الضحاك بن قيس
ومن طريق أخبرنا حماد بن سلمة أبو عقبة أن رجلا ادعى على رجل ألف درهم ولم تكن له بينة فاختصما إلى عبد الملك بن يعلى فقال : قد كانت له عندي ألف درهم [ ص: 103 ] فقضيته فقال : أصلحك الله قد أقر ؟ فقال له عبد الملك بن يعلى : إن شئت أخذت بقوله أجمع ، وإن شئت أبطلته أجمع - عبد الملك بن يعلى من التابعين - ولي قضاء البصرة .
ومن طريق عن عبد الرزاق عن معمر عن أبيه قال : من أقر بشيء في يده فالقول قوله . عبد الله بن طاوس
ومن طريق عن حماد بن سلمة قال : كل من كان في يده شيء فالقول فيه قوله - وقولنا فيما ذكرنا هو قول إياس بن معاوية ، عثمان البتي ، وأحد قولي وأبي سليمان . الشافعي
وأما - : فكلهم متفق على ما قلنا ، إلا في الرجوع عن الإقرار بما يوجب الحد ، فإن الحنفيين ، والمالكيين ، قالوا : إن رجع لم يكن عليه شيء - وهذا باطل ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا الإقرار بالحد على الإقرار بالحقوق سواء ؟ وأيضا - فإن الحد قد لزمه بإقراره ، فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به ; واحتجوا بشيئين : الرجوع عن الإقرار
أحدهما : حديث ماعز .
والثاني : أن قالوا : إن الحدود تدرأ بالشبهات .
قال : أما حديث علي ماعز - فلا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه ليس فيه : أن ماعزا رجع عن الإقرار ألبتة ، لا بنص ، ولا بدليل - ولا فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن رجع عن إقراره قبل رجوعه أيضا ألبتة ، فكيف يستحل مسلم أن يموه على أهل الغفلة بخبر ليس فيه شيء مما يزعم ؟ وإنما روي عن بعض الصحابة أنه قال : كنا نتحدث أن ماعزا ، والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما ، أو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما - : هكذا رويناه من طريق عن أبي أحمد الزبيري بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه أنه قال هذا القول - وهذا ظن ، والظن لا يجوز القطع به ، وقول القائل : لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا كذا - : ليس بشيء ، إذ لم يفعل ذلك الفلان ، ولا غيره ذلك الفعل قط ولا فعله عليه السلام قط ، وقد قال : أنا أعلم الناس بأمر جابر ماعز إنما { } ؟ ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، فأما لترك حد فلا - : هذا نص [ ص: 104 ] كلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلا تركتموه وجئتموني به ، فهو أعلم بذلك ، ولم يرجع جابر ماعز قط عن إقراره ، وإنما قال : ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي - هكذا روينا كل ما ذكرنا من طريق أبي داود نا نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة عن يزيد بن زريع : أن محمد بن إسحاق عاصم بن عمر بن قتادة قال : حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب : أن قال له : كل ما ذكرنا على نصه - فبطل تمويههم بحديث جابر بن عبد الله ماعز .
وأما " ادرءوا الحدود بالشبهات " فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قط من طريق فيها خير ، ولا نعلمه أيضا جاء عنه عليه السلام أيضا ، لا مسندا ، ولا مرسلا وإنما هو قول روي عن ، ابن مسعود ، فقط - ولو صح لكانوا أول مخالف له ; لأن الحنفيين ، والمالكيين لا نعلم أحدا أشد إقامة للحدود بالشبهات منهم . وعمر
فالمالكيون يحدون في الزنى بالرجم والجلد بالحبل فقط - وهي منكرة - وقد تستكره وتوطأ بنكاح صحيح لم يشتهر ، أو وهي في غير عقلها ، ويقتلون بدعوى المريض : أن فلانا قتله ، وفلان منكر ولا بينة عليه .
ويحدون في الخمر بالرائحة ، وقد تكون رائحة تفاح ، أو كمثرى شتوي .
ويقطعون في السرقة من يقول : صاحب المنزل بعثني في هذا الشيء - وصاحب المنزل مقر له بذلك .
ويحدون في القذف بالتعريض - وهذا كله هو إقامة - الحدود بالشبهات .
وأما الحنفيون فإنهم يقطعون من دخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة فلم يتول أخذ شيء ولا إخراجه ، وإنما سرق الذي دخل فيه فقط ، فيقطعونهما جميعا - في كثير لهم من مثل هذا قد تقصيناه في غير هذا المكان .
فمن أعجب شأنا ممن يحتج بقول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هو أول مخالف لما احتج به من ذلك ، وأما تسويتنا بين الحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى ذات الأب البكر ، وغير البكر ، واليتيمة ، وذات الزوج فلأن الدين واحد على الجميع ، والحكم واحد على الجميع ، إلا أن يأتي بالفرق بين شيء من ذلك : قرآن أو سنة - ولا قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا إجماع على الفرق بين شيء مما ذكرنا وبلا خلاف من أحد من أهل [ ص: 105 ] الأرض من المسلمين في أن الله تعالى خاطب كل من ذكرنا خطابا قصد به إلى كل واحد منهم في ذات نفسه بقوله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين }
فكل من ذكرنا مأمور بالإقرار بالحق على نفسه ، ومن الباطل المتيقن أن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم .
وقد قال قوم : لا يلزم ; لأنه مال فإنما هو مقر في مال سيده ، والله تعالى يقول : { إقرار العبد بما يوجب الحد ولا تكسب كل نفس إلا عليها }
قال : هو وإن كان مالا فهو إنسان تلزمه أحكام الديانة ، وهذه الآية حجتنا في ذلك ; لأنه كاسب على نفسه بإقراره . علي
وقد وافقونا : لو أن للزمه ، وفي إقراره بذلك إبطال إجارته إن أقر بما يوجب قتلا أو قطعا وليس بذلك كاسبا على غيره وبالله تعالى التوفيق . أجيرا أقر على نفسه بحد