ومن فإن خرج من ثلثه عتق وورثه ، وإن لم يخرج من ثلثه عتق ولم يرثه ، واستسعى فيما زاد على الثلث كسائر الورثة ، فإن اشترى ابنه في مرضه الذي مات فيه لحق به وورثه ، وإن أقر بولد أمته في مرض موته فهي أم ولد من رأس ماله ويرثه ولدها . ووافقه على ذلك كله وطئ أمة في مرض موته فحملت أبو يوسف ، ، إلا أن الذي يشتري ولده في مرضه ولا يحمله الثلث فإنهما ومحمد قالا : يرثه على كل حال ، ويستسعى فيما يقع من قيمته للورثة فيأخذونه . [ ص: 167 ]
وقالوا كلهم : إنما هذا في المرض المخيف كالحمى الصالب والبرسام ، والبطن ، ونحو ذلك ، ولم يروا ذلك في الجذام ، ولا حمى الربع ، ولا السل ولا من يذهب ويجيء في مرضه .
وقال : كقول مالك في كل ما ذكرنا إلا في الحامل فإن أفعالها عنده كالصحيح إلى أن تتم ستة أشهر ، فإذا أتمتها فأفعالها في مالها كالمريض . حتى أنه منعها من مراجعة زوجها الذي طلقها طلاقا بائنا واحدة أو اثنتين وإلا الاستسعاء فلم يره ، بل أرق ما لم يحمل الثلث منه ، وإلا فيمن اشترى ابنه في مرضه ولم يحمله الثلث فإنه أعتق منه ما حمل الثلث وأرق الباقي . أبي حنيفة
وقال ، الشافعي للمريض أن يقضي بعض غرمائه دون بعض - وقال وسفيان الثوري : فعل المريض مرضا مخيفا من الثلث ، فإن أفاق فمن رأس ماله - واختلف قوله في الذي يقدم للقتل ؟ فمرة قال : هو كالصحيح ومرة قال : هو كالمريض . الشافعي
قال : أما قول أبو محمد ، مالك : أنه ليس للمريض أن يقضي بعض غرمائه دون بعض - : فخطأ في تفريقهما في ذلك بين الصحيح ، والمريض ، والحق في [ ص: 168 ] ذلك هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يعطى كل ذي حق حقه ، فهو في إنصافه بعض غرمائه دون بعض معطي ذلك الذي أنصف حقه ، ومن فعل ما أمر به فهو محسن ، والإحسان لا يرد ، فإن كان الذي لم ينصفه حاضرا طالبا حقه فهو عاص في أنه لم ينصفه ، وهما قضيتان أصاب في إحداهما ، وظلم في الأخرى - والحق لا يبطله ظلم فاعله في قصة أخرى وحق الغريم إنما هو في ذمة المدين لا في عين ماله ما دام حيا لم يفلس ، فإذ ذلك كذلك فقد نفذ الذي أعطى ما أعطاه بحق ولزمه أن ينصف من بقي إذ حقه في ذمته لا في عين ما أعطى الآخر - ولم يأت نص في الفرق بين صحيح ، ومريض ، وما نعلم لهما في قولهما هذا سلفا . وأبي حنيفة
وأما قولهما فيمن اشترى ولده في مرضه فلم يحمله الثلث أنه لا يرثه ، فإن حمله الثلث عتق وورث - : فقول في غاية الفساد والمناقضة ، ولا نعلم لهما فيه سلفا متقدما ; لأنه إن كان وصية ، فالوصية للوارث لا تجوز - فينبغي على أصلهم أن لا ينفذ عتقه أصلا حمله الثلث أو لم يحمله - وقد قال بهذا بعض الشافعيين .
وقال آخرون منهم : الشراء فاسد ; لأنه وصية لوارث وإن كان ليس وصية فما باله لا يرث وقد صار حرا بملك أبيه له ، ثم مناقضتهم في المريض يطأ أمته فتحمل أنها من رأس ماله حرة ويرثه ولدها ، فإن قالوا : حملها ليس من فعله ؟ قلنا : لكن وطأه لها من فعله ، وإقراره بولدها من فعله ، وعتق الولد في كل حال ليس من فعله . وأما قول في الحامل فقول أيضا لا نعلم له فيه سلفا ، واحتج له بعض مقلديه بقول الله تعالى : { مالك فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما } .
قال : وهذا إيهام منهم للاحتجاج بما لا حجة لهم فيه أصلا ; لأن الله تعالى لم يقل إن الإثقال لم تكن إلا بتمام ستة أشهر - : فظهر تمويههم بما ليس لهم فيه متعلق . أبو محمد
ثم ليت شعري من لهم بأن الإثقال جملة يدخلها في حكم المريض ، وقد يحمل الحمال حملا ثقيلا فلا يكون بذلك في حكم المريض عندهم . [ ص: 169 ]
فإن قالوا : قد تلد لستة أشهر ؟ قلنا ، وقد تسقط قبل ذلك ، والإسقاط أخوف من الولادة أو مثلها - فظهر فساد هذا القول جملة . وبالله تعالى التوفيق .
قال : ثم نأخذ بحول الله تعالى وقوته في قول من قال : بأن أفعال المريض ، ومن خيف عليه الموت من الثلث ؟ قال علي : احتجوا بالخبر الثابت المشهور من طريق أبو محمد ، ابن سيرين وأبي لمهلب ، كلاهما عن : { عمران بن الحصين } . أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين ، وأرق أربعة
وجاء في بعض الروايات : أنه عليه السلام قال فيه قولا شديدا . وبالخبر الصحيح الثابت من طريق ; مالك ، وابن عيينة عن وإبراهيم بن سعد الزهري عن عن أبيه قال : { عامر بن سعد بن أبي وقاص } وذكر باقي الخبر جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي فقلت : يا رسول الله قد بلغني من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي . أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال عليه السلام : لا ، قلت : فالشطر ؟ قال : لا ، ثم قال عليه السلام : الثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس
قالوا : فلم يأذن له عليه السلام بالصدقة بأكثر من الثلث .
وبخبر رويناه من طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا يزيد بن محمد العقيلي نا حفص بن عمر بن ميمون عن عن ثور بن يزيد مكحول عن عن الصنابحي [ ص: 170 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي بكر الصديق } إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم رحمة لكم وزيادة في أعمالكم وحسناتكم
ومن طريق سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { سليمان بن موسى } . جعل لكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم
ومن طريق عن معمر أيوب عن { أبي قلابة } . ومن طريق قال النبي صلى الله عليه وسلم في خبر عن الله تعالى : أنه قال : جعلت لك طائفة من مالك عند موتك أرحمك به عن معمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قتادة } . [ ص: 171 ] ابتاعوا أنفسكم من ربكم أيها الناس ، ألا إنه ليس لامرئ شيء ، ألا لا أعرفن امرأ بخل بحق الله حتى إذا حضره الموت أخذ يذعذع ماله ههنا ههنا
ومن طريق عن وكيع طلحة - هو ابن عمرو المكي - عن عن عطاء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أبي هريرة } . ومن طريق إن الله تصدق عليكم بالثلث من أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم نا سعيد بن منصور أنا هشيم عن حجاج العلاء بن بدر عن أبي يحيى المكي : { } . أن رجلا أعتق غلاما له عند موته ليس له مال غيره ، وعليه دين ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسعى في قيمته
ومن طريق نا سعيد بن منصور أنا هشيم عن خالد عن رجل من أبي قلابة بني عذرة { } : وقالوا قد صح عن أن رجلا منهم أعتق غلاما عند موته ولم يكن له مال غيره ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق منه الثلث واستسعى في الثلثين أنه قال أبي بكر رضي الله عنها عند موته " إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من مالي فلو كنت جددتيه وحزتيه لكان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث " قالوا : فأخبر لعائشة بحضرة الصحابة أن من قارب الموت فماله مال الوارث . أبو بكر
وقالوا : قد جاء ما أوردنا عن ، علي ، ولا مخالف لهما يعرف من الصحابة رضي الله عنهم فهو إجماع ، وقالوا : قسناه على الوصية . وابن مسعود
قال : هذا كل ما شغبوا به ، وكله لا حجة لهم فيه - : أما حديث رجل من بني عذرة : فمرسل ، وعن مجهول ، ثم لو صح لكان مخالفا لقول أبو محمد ، مالك ; لأنهما لا يريان الاستسعاء . والشافعي
وأما خبر أبي يحيى المالكي : فهالك ; لأنه مرسل ، وعن ، وهو ساقط ، ثم لو صح لكان مخالفا لقول حجاج مالك . والشافعي
وأما حديث : ففيه أبي هريرة طلحة بن عمرو المكي وهو كذاب .
وأما حديث : فمرسل ، ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأن البخل بحق [ ص: 172 ] الله تعالى لا نخالفهم أنه لا يحل ، وأن ذعذعة المال ههنا وههنا لا تجوز عندنا ، لا في صحة ، ولا في مرض ، فليس ذلك الخبر مخالفا لقولنا . قتادة
وأما حديث : فمرسل ، وكذلك حديث أبي قلابة . سليمان بن موسى
وأما حديث فسنده غير مشهور ، ولا ندري حال أبي بكر حفص بن عمر بن ميمون ، ثم لو صح هو وجميع الآثار التي ذكرنا لم يكن لهم في شيء منها حجة أصلا ; لأنه ليس فيها كلها إلا أن الله عز وجل تصدق علينا عند موتنا بثلث أموالنا - : فهذا يخرج على أنه الوصية التي هي بلا خلاف نافذة بعد الموت ، ومعروف في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العرب تقول : كان أمر كذا عند موت فلان ، وارتدت العرب عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي عند موت عمر - هذا أمر معروف مشهور . فجميع هذه الأخبار خارجة على هذا أحسن خروج ، وموافقة لقولنا على الحقيقة ، حاشا خبر أبي بكر العلاء بن بدر عن أبي يحيى المكي ، فإنه لا يخرج لا على قولنا ولا على قول أحد منهم ، فليس لهم أن يحتجوا بخبر يخالفونه ; لأن يقول : إن كان الدين لا يستغرق جميع قيمة العبد فإنما يسعى في الدين فقط ، ثم في ثلثي ما يبقى من قيمته بعد الدين فقط - وهو قولنا إذا أوصى بعتقه ، ونحن نقول : إن كان الدين يستغرق جميع قيمته ; فالعتق باطل - وهو قول أبا حنيفة ، مالك . والشافعي
فكل طائفة منهم قد خالفت ذلك الحديث . ثم جميعهم مخالف لجميع هذه الآثار ; لأنه ليس فيها إلا : " عند موته ، وعند موتكم " وليس في شيء منها ذكر لمرض أصلا ، فالمرض شيء زادوه بآرائهم ليس في شيء من الآثار نص منه ، ولا دليل عليه ، وقد يموت الصحيح فجأة ، ومن مرض خفيف ، فاقتصارهم على المرض من أين خرج ؟ وهلا راعوا ما جاءت به الآثار من لفظ " عند موته " فجعلوا من فعل ذلك " عند موته " صحيحا فعله ؟ أو مريضا من الثلث ، وجعلوا ما فعلوا في صحته أو مرضه مما تأخر عنه موته من رأس ماله ؟ فظهر أن جميع هذه الآثار مخالفة لقولهم ، وأنها من النوع الذي احتجوا به لأقوال لهم ، ليس منها شيء فيما احتجوا له به ، وهذا إيهام منهم قبيح ، وتدليس في الدين - فسقط تعلقهم بها .