قالوا : وفي أحد حديثي وائل أنه استشار القاتل في إعطاء الدية ، فلو كانت واجبة عليه ما استشاره في ذلك .
قالوا : وقد رويتم من طريق عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال : في الكتاب الذي هو عند أبي ، وهو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي في حديث ابن طاوس ، وهي في شبه العمد : ثلاثون حقة ، وثلاثون بنت لبون ، وأربعون خلفة فتية سمينة - إذا اصطلحوا في العمد ، فهو على ما اصطلحوا عليه - قالوا - فلم يذكر في العمد دية . معمر
وقالوا : قال الله عز وجل : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحل مال امرئ مسلم بغير طيب نفس منه } .
قالوا : فدل هذان النصان على أن مال القاتل لا يجوز أخذ شيء منه إلا بطيب نفس منه .
وقالوا : قال الله عز وجل : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، وقال تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } .
وقالوا : وليس مثل القتل إلا القتل ، فلا مدخل للدية هاهنا إلا برضاهما معا .
وقالوا : قال الله عز وجل : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } .
[ ص: 244 ] قالوا : فلم يذكر عز وجل إلا القتل فقط .
وقالوا " لا يخلو ولي المقتول من أن يكون له القصاص أو يكون له أيضا أخذ الدية بدلا من القصاص ، فإن قلتم هذا ؟
قلنا : لم نجد قط حقا لإنسان أن يكون له أخذ بدل منه إلا برضا الذي عليه الحق ، فإن قلتم : له إما القصاص وإما الدية ؟ .
قلنا : لو كان ذلك لكان إن عفا عن أحدهما لم يجز عفوه ; لأنه لم يجب له بعد بعينه - وإنما يجوز عفوه عنه إذا اختاره ثم عفا عنه بعد وجوبه له بعينه .
وقالوا : قد روي عن كما رويتم من طريق عمر بن الخطاب عن عبد الرزاق عن ابن جريج عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن قال : لا يمنع السلطان ولي الدم أن يعفو - إن شاء - أو يأخذ العقل - إن اصطلحوا عليه - ولا يمنعه أن يقتل إن أبى إلا القتل بعد أن يحق له القتل في العمد . واعترضوا في قول الله عز وجل : { عمر بن الخطاب فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع } .
وقالوا : إن الضمير الذي في { له } وفي { من أخيه } راجع إلى ولي المقتول ، لا إلى القاتل ، بمعنى : فمن سمح له القاتل بالدية .
واعترضوا في خبر بأن قالوا : قد رويتم هذا الخبر بعينه بخلاف ذلك اللفظ ، لكن كما رويتم من طريق أبي هريرة أحمد بن شعيب أنا أرني أبي حدثني العباس بن الوليد بن مزيد الأوزاعي أنا حدثني يحيى بن أبي كثير أن أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أبا هريرة } . من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما يقاد ، وإما يفادى
ومن طريق أنا أبي بكر بن أبي شيبة الحسن بن موسى عن شيبان عن أخبرني يحيى بن أبي كثير أن أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبره في حديث " أن [ ص: 245 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبا هريرة } قالوا : فلم يذكر دية - وهذا قولنا . ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يقتل ، وإما أن يفادي أهل القتيل
واعترضوا في خبر أبي شريح الكعبي بأن قالوا : قد رويتموه كما حدثكم أحمد بن قاسم أنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال حدثني جدي قال : أنا قاسم بن أصبغ عبد الله بن روح أنا أنا يزيد بن هارون عن ابن إسحاق الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء السلمي عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { - والخبل الجراح - فهو بالخيار في إحدى ثلاث أشياء : إما أن يعفو ، وإما أن يقتص ، وإما أن يأخذ العقل أصيب بدم أو خبل } . من
قالوا : فلو وجبت الدية بالعفو - وإن لم تذكر - لما كان لذكره عليه الصلاة والسلام للدية مع ذكره للعفو مخيرا بينهما معنى .
قالوا : ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام " إما أن يقاد وإما أن يعقل " أن يرضى القاتل كما تقول : خذ بسلعتك كذا وكذا ، أي يرضى البائع .
هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه لهم ، ولا حجة لهم في شيء منه على ما نذكر إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
أما حديث سعيد بن سليمان عن عن سعيد بن كثير عمرو بن دينار عن عن طاوس : فلا حجة لهم فيه ; لأنه بإجماع منا ومنهم لم يذكر فيه عفوا ، وإنما ذكر فيه القود فقط . ابن عباس
فإن قالوا : قد ذكر العفو في غير هذا المكان ؟
قلنا : وقد ذكرت الدية في غير هذا المكان ، ولا فرق - وزيادة العدل لا يجوز تركها - والحنفيون يخالفون هذا الخبر ; لأنهم لا يرون القود للولد من الوالد ، فخصه بلا برهان - وكذلك المالكيون ; لأنهم لا يرون القود للعبد من الحر فخصوه أيضا بلا برهان .
وأما حديث فمرسل ، ولا حجة في مرسل - ثم هو عن ابن أبي ليلى ، وهو سيئ الحفظ . محمد بن عبد الرحمن
[ ص: 246 ] وأما حديث عمرو بن حزم فساقط ; لأن سليمان بن داود الذي رواه عن الزهري - ضعيف الحديث مجهول الحال - قال ابن معين وغيره : ثم لو صح هو وحديث لكانا حجة لنا لا لهم ; لأن فيه : إلا أن يرضى أولياء المقتول - ونحن لا ننكر هذا ، بل نقول : إنهم إن رضوا بالدية أو بأكثر من الدية ، فلهم رضاهم . ابن أبي ليلى
وخبر أبي شريح ، : ففيهما زيادة عدل على هذين الخبرين ، وزيادة عدلين لا يجوز تركها - وكم قضية في خبر وأبي هريرة عمرو بن حزم المذكور ، وقد خالفوها بآرائهم كما ذكرنا في " كتاب الزكاة " - وبالله تعالى التوفيق .
وأما حديثا فساقطان - : أحدهما - من رواية وائل بن حجر أبي عمرو العايذي - وهو مجهول - وقد روي عن عوف أيضا عن أبي عمرو الضبي ، فإن لم يكن ذلك فهو ضعيف - وقد روي هذا الخبر مدلسا ، ونحن نبينه - إن شاء الله عز وجل عليه لئلا يموه به على جاهل بعلوم الحديث ، وهو كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن عوف الأعرابي عن علقمة بن وائل عن أبيه ، قال : جيء بالقاتل - وذكر الحديث نفسه - فأسقط بين عوف ، وعلقمة : أبا عمرو المذكور .
والثاني - من رواية سماك بن حرب - وهو يقبل التلقين .
ثم لو صحا لكانا حجة لنا عليهم ; لأن في أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لولي القاتل : أتعفو ؟ قال : لا ، قال : أفتأخذ الدية ؟ قال : لا ، قال : أفتقتل ؟ قال : نعم .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لولي المقتول دون أن يستشير القاتل ، أو يلتفت إلى رضاه - وهذا قولنا لا قولهم . الخيار في العفو أو القود أو أخذ الدية
والآخر - أن فيه عليه الصلاة والسلام قال للقاتل { } قال : ألك مال تؤدي ديته ؟ قال : لا : قال : أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته ؟ قال : لا ، قال : فمواليك يعطونك ديته ؟ قال : لا . رضي الله عنه : ومن لا مال له ولا يطمع في أن يجمع له الدية ، لا الناس ولا مواليه الذين لا شيء عليهم من جنايته فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق . أبو محمد
[ ص: 247 ] وأما خبر فساقط ; لأنه من طريق أنس - وهو مجهول - ثم لو صح لكان حجة لنا كما قلنا في خبر عبد الله بن شوذب وائل ; لأن فيه تخيير الولي بين أخذ الدية أو القود أو العفو ، فكيف وهما خبران موضوعان بلا شك ; لأن فيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يمكن أن يقولوه من إيجاب النار على من أخذ حقه الذي أعطاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمره عليه الصلاة والسلام إياه فقتل من نهاه عن قتله - فهذا تناقض قد نزه الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عنه .
وأما قولهم : لو كانت الدية واجبة بالعفو - وإن لم يذكر - لما كررها عليه الصلاة والسلام فليس كما ظنوا ، وإنما ذكر عليه الصلاة والسلام عفوا مطلقا عاما لا عفوا خاصا عن الدم فقط - وكذلك نقول : إن عفا عن الدم وحده خاصة ، فالدية باقية له ، وإن عفا عفوا عاما عن الدم والدية فذلك له .
وأما خبر عن أبيه فمرسل ولا حجة في مرسل ، ثم هو أعظم حجة على الحنفيين ، والمالكيين لخلافهم لما فيه . ابن طاوس
أما الحنفيون فالدية عندهم في شبه العمد بخلاف ما فيه ، لكن أرباعا جذاع ، وحقاق ، وبنات لبون ، وبنات مخاض ، وأما المالكيون فلا يرون في شبه العمد شيئا أصلا .
فمن أعجب ممن يحتج بما هو أول مخالف له ، ويصححه على من لا يصححه - ثم ليس فيه إلا كما في العمد ما اصطلحوا عليه إذا اصطلحوا ، ونحن نقول بهذا ولا نخالفه .
وأما ذكرهم قول الله عز وجل : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { } فصحيح كل ذلك - وهو قولنا . لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه
وقد قال الله عز وجل : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .
[ ص: 248 ] فإذا أوجب الله تعالى الدية ، أو رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وجب أحدهما على رغم أنف الزاعم - رضي الذي يؤخذ منه أو كره - طابت نفسه ، أو خبثت كما قلنا .
وقالوا في العاقلة ، والزكاة ، والنفقات الواجبات ، وغير ذلك .
ولو أنهم احتجوا على أنفسهم بهذين النصين حيث أوجبوا الدية على عاقلة الصبي ، والمجنون ، وإن كرهوا ولم تطب أنفسهم ولا رضوا ولا أوجبها الله تعالى قط ، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام لكان أولى بهم - وهذا هو الأكل للمال بالباطل حقا .
وأما قوله عز وجل : { فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } { والحرمات قصاص } و { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فحق كل ذلك .
وقوله عز وجل : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { } حكم زائد على تلك الآيات ، وأحكام الله عز وجل ، وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم كلها حق يضم بعضها إلى بعض - ولا يحل خلاف شيء منها . إما أن يقاد وإما أن يودى
ولو أنهم احتجوا على أنفسهم بهذه الآيات حيث خالفوها من إسقاطهم القود للولد من أبيه ، وإسقاط القود لمن لم يعف من أجل عفو واحد منهم ، وإسقاط بعضهم القود للعبد من الحر - : لكان أولى بهم .
وأما قوله عز وجل : { فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } فحق ، وبه نقول : إذا اختار القود فليقتل قاتل وليه ، ولا يحل له أن يسرف فيقتل غير قاتله - وليس هاهنا ذكر الدية التي قد ورد حكمها في نص آخر .
وأما قولهم : لا يخلو ولي المقتول من أن يكون له القصاص ، أو أخذ الدية بدلا من القصاص .
قالوا : ولم نجد قط حقا لإنسان يكون له أخذ بدل منه بغير رضا الذي عليه الحق - فهذيان نسوا فيه أقوالهم الفاسدة .
[ ص: 249 ] إذ قالوا : من كسر قلب فضة لغيره فصاحب القلب يخير بين أخذ قلبه كما هو ولا شيء له ، وإن شاء ضمن قيمته مصوغا غير مكسور من الذهب - أحب الكاسر أو أبى .
وإذ قالوا : من غصب ثوبا لآخر فقطعه قطعا استهلكه به ، كحرق أو خرق في بعضه ؟ فإن صاحب الثوب مخير بين أن يأخذ ثوبه وقيمة نقصانه ، وإن شاء أعطاه للغاصب وألزمه قيمته صحيحا - بخلاف الحكم لو قطعه قميصا .
بخلاف القمح إذا طحنه دقيقا والدقيق إذا خبزه خبزا ، واللحم إذا طبخه أو شواه ، فلم يروا للمغصوب في كل هذا إلا قيمة ما غصب منه فقط - وجعلوا القميص ، والخبز ، والطبخ ، والشواء : حلالا للغاصب ، بحكم إبليس اللعين .
فهذه أبدال أوجبوها بآرائهم الفاسدة فرضا من حقوق واجبة بغير رضا الذي ألزموها إياها ، ولا طيب نفسه .
وأما نحن فلا نعترض على أحكام الله عز وجل وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه القضايا الخبيثة - وبالله تعالى نتأيد .
وأما قولهم : إن كان له القود أو الدية فلا يجوز عفوه عن أحدهما حتى يختاره ؟ فقول سخيف ، بل عفوه عن القود جائز ، وتبقى له الدية ، إلا أن العفو عنها كما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كما أنه إذا اختار القود : فقد أسقط حقه في الدية ، وإذا اختار الدية فقد أسقط حقه في القود ، وإذا عفا عن القود بقي حكمه في القسم الآخر - وهو الدية - وبالله تعالى التوفيق .