قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله : اعلم بأن علم الشروط من آكد العلوم ، وأعظمها صنعة فإن الله - تعالى - أمر [ ص: 168 ] بالكتاب في المعاملات فقال عز وجل { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالكتاب في المعاملة بينه وبين من عامله ، وأمر بالكتاب فيما قلد فيه عماله من الأمانة وأمر بالكتاب في الصلح فيما بينه وبين المشركين ، والناس تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بعلم الشرط فكان من آكد العلوم وفيه المنفعة من أوجه : أحدها : صيانة الأموال ، وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها .
والثانية : قطع المنازعة فإن الكتاب يصير حكما بين المتعاملين ويرجعان إليه عند المنازعة فيكون سببا لتسكين الفتنة ، ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن يخرج الكتاب وتشهد الشهود عليه بذلك فيفتضح في الناس .
والثالثة : التحرز عن العقود الفاسدة ; لأن المتعاملين ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب .
والرابعة : رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الكتاب لا يبقى لواحد منهما ريبة ، وكذلك بعد موتهما تقع الريبة لوارث كل واحد منهما بناء على ما ظهر من عادة أكثر الناس في أنهم لا يؤدون الأمانة على وجهها فعند الرجوع إلى الكتاب لا تبقى الريبة بينهم فينبغي لكل أحد أن يصرف همته إلى تعلم الشروط لعظم المنفعة فيها ولأن الله - تعالى - عظمها بقوله - جل جلاله - : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } فقد أضاف الله - تعالى - تعليم الشروط إلى نفسه كما أضاف تعليم القرآن إلى نفسه فقال - عز وجل - : { الرحمن علم القرآن } وأضاف تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال - جل جلاله - : { وعلمك ما لم تكن تعلم } رحمه الله سبق العلماء رحمهم الله ببيان علم الشروط ، وبذلك يستدل على أن مذهبه أقوى المذاهب فإنه يبعد أن يقال : المبتدئ ببيان ما أخبر الله - تعالى - أنه هو المعلم له لم يكن على غير صواب . وأبو حنيفة
ثم بدأ الكتاب فقال : إذا كتب : هذا ما اشترى فلان بن فلان من فلان بن فلان ، وبعض أهل الشروط رحمهم الله لم يستحسن هذا اللفظ ، وقال : هذا إشارة إلى البياض الذي كتب فيه فظاهره يوهم أن المشترى ذلك البياض ولكن ينبغي أن يكتب هذا كتاب فيه ذكر ما اشترى ، ولكنا نقول : إنما اختار أصحابنا رحمهم الله هذا اللفظ اقتداء بالكتاب والسنة فإن الله - تعالى - قال : { أراد الرجل أن يشتري دارا هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ } ولم يقل هذا كتاب فيه ذكر ما توعدون ولما { العداء عبدا كتب ما اشترى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العداء بن خالد بن هوذة الحنفي } ولا شك أن الأحسن ما وافق الكتاب والسنة ثم في هذا إيجاز وحذف لما يحتاج إليه فكل أحد يعرف أن المراد هذا كتاب فيه ذكر ما اشترى ، وقوله : فلان بن فلان من فلان بن فلان إنما يستقيم الاكتفاء بهذا على قول اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 169 ] من فإن عنده التعريف يتم بذكر اسم الرجل واسم أبيه ، فأما عند أبي يوسف أبي حنيفة رحمهما الله لا يتم التعريف إلا بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده أو اسم أبيه وذكر قبيلته ، واحتج ومحمد بما روي { أبو يوسف الحديبية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما صالح محمد بن عبد الله وسهل بن عمرو على أهل مكة } فقد اكتفى بذكر اسم الأب ، والمعنى فيه : أن التعريف يتم بما يمتاز به من غيره وبمجرد اسمه لا يحصل ذلك فالمسمى بذلك الاسم كثير في الناس ، فإذا ضم إلى اسمه اسم أبيه يحصل المقصود باعتبار الظاهر فإنه لا يتفق اسم رجلين واسم أبيهما إلا نادرا فلا يعتبر ذلك النادر لبقاء ذلك مع ذكر اسم الجد فإنه كما يتوهم اتفاق اسمين يتوهم اتفاق أسام ثلاثة ، ويسقط اعتبار ذلك ; لأنه مخالف للعادة ، فكذلك هذا ، وهما يستدلان بما روينا { في صلح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العداء بن خالد بن هوذة } ففي هذا دليل أن من كان مشهورا يكتفى في تعريفه بذكر اسمه ونعته ، كما ذكر في حق نفسه وأن من لم يكن معروفا فإتمام تعريفه بذكر اسم أبيه واسم جده ، كما ذكره في حق العداء ، ولا يعارض هذا حديث صلح أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب : هذا ما اشترى الحديبية ; لأن الصلح ما كان في ذلك الوقت إلا واحدا ، فكان لا يقع الالتباس فيه فيحتاج إلى تمام التعريف .
( ألا ترى ) أنه في نظره قد اكتفى بذكر الاسم أيضا ، وهو { فيما كتبه لأكيدر بن عبد الملك فقال : هذا ما كتب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام ، وخلع الأنداد والأصنام ثم أتم الكتاب } ; لأنه ما كان يقع الاشتباه في ذلك فاكتفى بذكر اسمه ، وفي المعاملة لما كان يقع الاشتباه ذكر اسم من عامله واسم أبيه واسم جده .
والدليل على أن تمام التعريف بما قلنا أن من له أب واحد في الإسلام لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام ومن له أبوان في الإسلام يكون كفؤا لمن له عشرة آباء في الإسلام وقيل : المعتبر ما يتم به التعريف في الإسلام ، وذلك يحصل بالأب والجد ، ولا يحصل بالأب وحده ، وهذا لأنه قد يتفق اسم رجلين واسم أبيهما في العادة فلا يمتاز أحدهما من الآخر إلا بذكر اسم الجد أو بذكر القبيلة .