وذكر عن رضي الله عنه أنه قال عمر بن الخطاب ، وفيه دليل على أنه لا بأس باستعمال المعاريض للتحرز عن الكذب فإن الكذب حرام لا رخصة فيه ، والذي يروي حديث : من معاريض الكلام ما يغني المسلم عن الكذب عقبة بن أبي معيط رضي الله عنه { } تأويله في استعمال معاريض الرجال الكلام فإن صريح الكذب لا يحل هنا كما لا يحل في غيره من المواضع . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاثة مواضع في الرجل يصلح بين الناس ، والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب
والذي يروى أن الخليل عليه السلام كذب ثلاث كذبات إن صح ، فتأويل هذا : أنه ذكر كلاما عرض فيه ما خفي عن السامع مراده ، وأضمر في قلبه خلاف ما أظهره فأما الكذب المحض من جملة الكبائر ، والأنبياء عليهم السلام كانوا معصومين عن ذلك ومن جوز عليهم الكذب فقد أبطل الشرائع ; لأنه جعل ذلك باختيارهم ، وإذا جاز عليهم الكذب في خبر واحد جاز في جميع ما أخبروا به .
وبطلان هذا القول لا يخفى على ذي لب ، فعرفنا أن المراد استعمال المعاريض ، وقال [ ص: 212 ] ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم ، فإنما يريد به أن بمعاريض الكلام يتخلص المرء من الإثم ، ويحصل مقصوده فهو خير من حمر النعم والأصل في جواز المعاريض قوله تعالى { ابن عباس ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } الآية فقد جوز الله - تعالى - المعاريض ، ونهى عن التصريح بالخطبة بقوله عز وجل { ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا } .
ثم بيان استعمال المعاريض من أوجه : أحدها : أن يقيد المتكلم كلامه بلعل وعسى كما قال عليه السلام { } ، ولم يكن أمر به ، ولم يكن ذلك كذبا منه لتقييد كلامه بلعل . والثاني : أنه يضمر في لفظه معنى سوى ما يظهره ويفهمه السامع من كلامه ، وبيانه فيما روي { فلعلنا أمرناهم بذلك } أخبرها بلفظ أضمر فيه سوى ما فهمت من كلامه فدل أن ذلك لا بأس به . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتلك العجوز : إن الجنة لا يدخلها العجائز فجعلت تبكي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهل الجنة جرد مرد مكحلون
ومن ذلك ما روي عن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال خطب رضي الله عنه فقال : والله ما قتلت علي عثمان ولا كرهت قتله ، وما أمرت ولا نهيت فدخل عليه بعض من الله أعلم بحاله فقال له في ذلك قولا فلما كان في مقام آخر فقال من كان سائلي عن قتل عثمان رضي الله عنه فالله قتله ، وأنا معه قال رحمه الله هذه كلمة قرشية ذات وجوه أما قوله ما قتلت ابن سيرين عثمان رضي الله عنه فهو صدق حقيقة ولا كرهت قتله أي كان قتله بقضاء الله - تعالى - ونال درجة الشهادة فما كرهت له هذه الدرجة ، وما كرهت قضاء الله وقدره وأما قوله : فالله قتله وأنا معه مقتول أقتل كما قتل عثمان رضي الله عنه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يستشهد بقوله { وإن أشقى الأولين والآخرين من خضب بدمك هذه من هذه وأشار إلى عنقه ولحيته } .
وقد كان رضي الله عنه ابتلي بصحبة قوم على همم متفرقة فقد كان يحتاج إلى أن يتكلم بمثل هذا الكلام الموجه ، ومنه ما يروى عن علي أن سويد بن غفلة لما قتل الزنادقة نظر إلى الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال : صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين ماذا فنيت به عليا الشيعة منذ اليوم أرأيت نظرك إلى الأرض ثم رفعك إلى السماء ثم قولك صدق الله ورسوله أشيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء رأيته فقال هل علي من بأس أن أنظر إلى الأرض فقلت لا فقال وهل علي من بأس أن أنظر إلى السماء فقلت لا فقال هل علي من بأس أن أقول : صدق الله ورسوله فقلت لا فقال فإني رجل مكابد ، وإنما أشار إلى [ ص: 213 ] المعنى الذي بينا أنه يحتاج إلى الوقوف على ما يضمره كل فريق من أصحابه ، وكان يضع مثل هذا الكلام ويتكلم بكلام موجه لذلك . علي
ومنه ما روي أنه كان إذا دخله ريبة من كل فريق جعل يمسح جبينه ويقول : ما كذبت ولا كدت يوهمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بحالهم فيظهرون له ما في باطنهم ، ومن ذلك ما روي عن رضي الله عنه قال : والله لا أغسل شعري حتى أفتح علي مصر وأترك البصرة كجوف حمار ميت وأعرك أذن عمار عرك الأديم ، وأسوق العرب بعصاي فذكروا رضي الله عنه ذلك فقال إن لابن مسعود يتكلم بكلام لا يصدر ، وها غرة هامته على مثل الطشت لا شعر عليها ، فأي شعر يغسله بهذه يتبين أن الكبار من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون معاريض الكلام في حوائجهم ، وكذلك من بعدهم من التابعين رحمهم الله على ما حكي عن رجل قال كنت عند عليا رحمه الله وامرأته تعاتبه في جاريته وبيده مروحة فقال أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال على ماذا شهدتم قلنا شهدنا على أنك جعلت الجارية لها فقال : أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم اشهدوا أنها لها ، وأنا أعني المروحة التي كنت أشير إليها وكانوا يعلمون غيرهم ذلك أيضا على ما ذكره في الكتاب عن إبراهيم رحمه الله في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا قال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله - تعالى - فقال : احلف واعن مسجد حيك ، وإنما يحمل هذا على أن إبراهيم رحمه الله علم أن المدعي مبطل ، وإنما المدعى عليه بريء فعلمه الحيلة ، وهو أن يحلف بالمشي إلى بيت الله - تعالى - يعني مسجد حيه فإن المساجد كلها بيوت الله - تعالى - أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه قال - عز وجل - { إبراهيم وأن المساجد لله } .
ولكن فيه بعض الشبهة فإنه إن كان الرجل بريئا عن الحق ما كان يلزمه شيء لو من غير هذه النية ، وإن لم يكن بريئا ما كان له أن يمنع الحق ولا كان يحل حلف بالمشي إلى بيت الله أن يعلمه هذا ليمنع به الحق ، وما كان ينفعه هذه النية فإن الحالف إن كان ظالما فاليمين على نية من يستحلفه لا على نية الحالف ، ولا يعتبر بنيته على ما بينته في هذا النوع من الشبهة وعن لإبراهيم رحمه الله أن رجلا قال له إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وأنا لا أقدر على ذلك فكيف الحيلة لي ؟ فقال : قل والله لا أبصر إلا ما بصرني به غيري ، وفي رواية إلا ما سدد لي غيري يعني إلا ما بصرك ربك فيقع عند السامع أن في بصره ضعفا يمنعه من أن يأتيه في الوقت الذي يطلب منه فلا يستوجس بامتناعه ، وهو يضمر في نفسه معنى صحيحا فلا تكون يمينه كاذبة . إبراهيم
وبيانه فيما روي عن رسول [ ص: 214 ] الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من كمال العقل موابأة الناس فيما لا يأثم به } وذكر عن رحمه الله أنه قال كان رجل من ابن سيرين باهلة عيونا فرأى بغلة رحمه الله فأعجبته فقال له لشريح أما إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام أي أن الله عز وجل هو الذي يقيمها بقدرته ، وقال الرجل : أف أف ، وفي هذا الحديث زيادة فإن الرجل لما أبصر البغلة فأعجبته ربضت من ساعتها فقال شريح ما قال فلما قال الرجل : أف أف قامت . شريح
وفي هذا دليل أن العين حق ، وقد { } ، ومنه يقال إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر فأراد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين السوء أن يرد عينه بأن يحقرها في عينه ، وقال ما قال وأضمر فيه معنى صحيحا ، وهو أن الله - تعالى - يقيمها بقدرته وذكر عن شريح النزال بن سيدة قال جعل يحلف حذيفة رضي الله عنهما على أشياء بالله ما قالها ، وقد سمعناه يقولها ، فقلنا له : يا لعثمان أبا عبد الله سمعناك تحلف على أشياء ما قلتها ، وقد سمعناك قلتها فقال : إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وإن لعثمان رضي الله عنه من كبار الصحابة ، وكان بينه وبين حذيفة رضي الله عنه بعض المداراة فكان يستعمل معاريض الكلام فيما يخبره به ويحلف له عليه فلما أشكل على السامع سأله عن ذلك فقال : إني أشتري ديني بعضه ببعض يعني أستعمل معاريض الكلام على سبيل المداراة أو كأنه كان يحلف ما قالها ، ويعني ما قالها في هذا المكان أو في شهر كذا أو يعني الذي فإن ما قد تكون بمعنى الذي فهذا ونحوه من باب استعمال المعاريض وبيانه فيما ذكر عن عثمان رحمه الله قال لي رجل : إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر منه فقال له إبراهيم والله إن الله ليعلم ما قلت لك من ذلك من شيء أي أضمر في قلبك الذي معناه أن الله ليعلم الذي قلت لك من حقك من شيء . إبراهيم
وعن عقبة بن غرار رحمه الله قال : كنا نأتي رحمه الله ، وهو خائف من إبراهيم فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا : إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لكم علم بمكاني ولا في أي موضع أنا واعنوا أنكم لا تدرون في أي موضع أنا فيه قاعد أو قائم فتكونون قد صدقتم وأتاه رجل في الديوان فقال إني اعترضت على دابة ، وقد نفقت وهم يريدون يحلفونني أنها الدابة التي اعترضت عليها فكيف أحلف فقال اركب دابة واعترض عليها على بطنك راكبا ثم احلف لهم أنها الدابة التي اعترضت عليها فيفهمون الغرض وأنت تعني اعترضت عليها على بطنك ويحكى عن الحجاج رحمه الله أنه كان استأذن عليه رجل ، وهو لا يريد أن يأذن له ركب رشادا وأراد فرس البخت وقال [ ص: 215 ] لجاريته قولي : إن الشيخ قد ركب وربما يقول لها : اضربي قدمك على الأرض وقولي : ليس الشيخ هنا أي تحت قدمي . إبراهيم