وما العيش إلا نومة وشرق وتمر على رءوس النخيل وماء
والمراد الرطب والمعنى فيه أن الرطب أمثال متساوية بدليل ثبوت حكم الربا فيها وقد بينا أن حكم الربا لا يثبت في المال ما لم يصر أمثالا متساوية وإنما صارت أمثالا متساوية بصفة الكيل فكان الكيل فيها عيارا شرعيا والأصل أنه يراعي وجود المساواة بين المثلين على الوجه الذي صار مال الربا كما في الحنطة وغيرها وبه فارق المقلوة فإن الحنطة لا تخلق كذلك بل تكون في الأصل غير مقلوة وتصير مال الربا بتلك الصفة فتراعى تلك المماثلة وبعد القلي لا تعرف تلك المماثلة وإن تساويا في الكيل فلهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية ولا بالمقليةفإن قيل [ ص: 185 ] هذا فاسد فقد جوزتم بيع الحنطة الرطبة بالحنطة الرطبة كيلا بكيل والرطوبة صفة حادثة بصنع العباد كالقلي ( قلنا ) الحنطة في الأصل تخلق رطبة ويكون مال الربا على هذه الصفة فإذا بلت بالماء عادت إلى تلك الصفة فإذا وجدت المماثلة على الوجه الذي صارت مال الربا جاز العقد وهي لا تخلق في الأصل مقلوة حتى يكون هذا إعادة إلى تلك الصفة فيها فأما بكيل يجوز في قول بيع الرطب بالتمر كيلا ولا يجوز في قول أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لحديث والشافعي { سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه } وفي حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : صلى الله عليه وسلم أينقص إذا جف قالوا نعم فقال : عليه الصلاة والسلام فلا إذا أن النبي عليه السلام { ابن عمر رضي الله عنه } ثم في قوله عليه السلام أينقص إذا جف إشارة إلى أنه يشترط لجواز العقد المماثلة في أعدل الأحوال وهو ما بعد الجفاف ولا يعرف ذلك بالمساواة في الكيل في الحال فهذا الحديث دليل نهى عن بيع الرطب بالتمر كيلا وعن بيع العنب بالزبيب كيلا رضي الله عنه أيضا في المسألة الأولى من هذا الوجه واعتبار المماثلة في أعدل الأحوال صحيح كما في بيع الحنطة بالدقيق فإنه لا يجوز لتفاوت بينهما بعد الطحن ولأن العقد جمع بين البدلين أحدهما على هيئة الادخار والآخر ليس على هيئة الادخار ولا يتماثلان عند التساوي في الصفة فلا يجوز بيع المقلية بغير المقلية وهذا بخلاف الجودة والرداءة فالرداءة من نوع العيب والرطوبة في الرطب ليس بعيب فإن العيب ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة فأما ما لا يخلو عن أصل الفطرة السليمة لا يكون عيبا كالصغير في الآدمي وانعدام العقل بسببه وهذا بخلاف الحديث مع العتق وكل واحد من البدلين هناك على هيئة الادخار ثم الحديث إذا عتق لا يظهر فيه التفاوت إلا شيء يسير لا يمكن التحرز عنه وذلك عفوا كالتراب في الحنطة الشافعي
ودخل أبو حنيفة بغداد فسئل عن هذه المسألة وكانوا أشد يدا عليه لمخالفته الخبر فقال : الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرا أو ليس بتمر فإن كان تمرا جاز العقد عليه لقوله صلى الله عليه وسلم { } وإن لم يكن تمرا جاز لقوله صلى الله عليه وسلم { التمر بالتمر } فأورد عليه حديث وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم فقال : مدار هذا الحديث على سعد رضي الله تعالى عنه زيد بن أبي عياش وزيد بن أبي عياش لا يقبل حديثه واستحسن منه أهل الحديث هذا الطعن حتى قال : كيف يقال ابن المبارك لا يعرف الحديث وهو يقول أبو حنيفة زيد بن أبي عياش ممن لا يقبل حديثه وهذا الكلام في المناظرة يحسن لدفع شغب [ ص: 186 ] الخصم ولكن الحجة لا تتم بهذا لجواز أن يكون هنا قسما ثالثا كما في المقلية بغير المقلية ولكن الحجة الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم { لأبي حنيفة } وقد بينا أن التمر اسم للثمرة الخارجة من النخيل حين تنعقد صورتها إلى أن تدرك وما يتردد عليها من الأوصاف باعتبار الأحوال لا يوجب تبدل اسم العين كالآدمي يكون صبيا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا التمر بالتمر مثل بمثل يد بيد كيل بكيل
فإذا ثبت أن الكل تمر يراعى وجود المماثلة حالة العقد على الصفة التي دخلت في العقد لأن اعتبار المماثلة سبب المقابلة وذلك يكون عند العقد وما كان اعتبار المساواة إلا نظير الأجود فكما لا يعتبر التفاوت في ذلك فكذلك في هذا وقد تحققت المساواة بينهما في الكيل في الحال لأن الرطوبة التي في الرطب مقصودة وهي شاغلة للكيل فلا يظهر التفاوت إلا بعد ذهابها بالجفاف فلا يتبين به أن التفاوت كان موجودا وقت العقد بخلاف الحنطة بالدقيق فإن بالطحن تتفرق الأجزاء ولا يفوت جزء شاغل للكيل فتبين بالتفاوت بينهما بعد الطحن أنهما لم يكونا متساويين عند العقد وكذا المقلية بغير المقلية فإن بالقلي لا يفوت جزء شاغل للكيل إنما تنعدم اللطافة التي كانت بها الحنطة منبتة ولما ظهر التفاوت بعد القلي عرفنا أن هذا التفاوت كان موجودا عند العقد ثم صاحب الشرع أسقط اعتبار التفاوت في الجودة بقوله صلى الله عليه وسلم جيدها ورديئها سواء واعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة حتى شرط اليد باليد ، وصفة الجودة لا تكون حادثة بصنع العباد والتقاوة بين النقد والنسيئة حادث بصنع العباد وهو اشتراط الأجل فصار هذا أصلا إن كل تفاوت ينبني على صنع العباد فذلك مفسد للعقد وفي المقلوة بغير المقلوة والحنطة بالدقيق بهذه الصفة وكل تفاوت ينبني على ما هو ثابت بأصل الخلقة من غير صنع العباد فهو ساقط الاعتبار والتفاوت بين الرطب والتمر بهذه الصفة فلا يكون معتبرا كالتفاوت بين الجيد والرديء قال : ( كبيع الرطب بالتمر ) . وبيع العنب بالزبيب