الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            هلاك فرعون وجنوده  

            لما تمادى قبط مصر على كفرهم ، وعتوهم ، وعنادهم ، متابعة لملكهم فرعون ، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه ، موسى بن عمران ، عليه السلام ، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول ، وهم مع ذلك لا يرعوون ، ولا ينتهون ، ولا ينزعون ، ولا يرجعون ، ولم يؤمن منهم إلا القليل ، قيل : ثلاثة; وهم امرأة فرعون ، ولا علم لأهل الكتاب بخبرها ، ومؤمن آل فرعون والرجل الناصح ، الذي جاء يسعى من أقصى المدينة ، فقال : ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين قاله ابن عباس ، فيما رواه ابن أبي حاتم عنه . ومراده غير السحرة ، فإنهم كانوا من القبط . وقيل : بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون ، والسحرة كلهم ، وجميع شعب بني إسرائيل . ويدل على هذا قوله تعالى : فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين [ يونس : 83 ] . فالضمير في قوله : إلا ذرية من قومه عائد على فرعون لأن السياق يدل عليه . وقيل : على موسى; لقربه . والأول أظهر ، وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته ، وجبروته وسلطته ، ومن ملئهم أن ينموا عليهم إليه ، فيفتنهم عن دينهم ، قال الله تعالى مخبرا عن فرعون ، وكفى بالله شهيدا : وإن فرعون لعال في الأرض أي; جبار ، عنيد ، مستعل بغير الحق ، وإنه لمن المسرفين أي; في جميع أموره وشئونه وأحواله ، ولكنه جرثومة قد حان انجعافها ، وثمرة خبيثة قد آن قطافها ، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها . وعند ذلك قال موسى : وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [ يونس 84 - 86 ] . يأمرهم بالتوكل على الله ، والاستعانة به والالتجاء إليه ، فأتمروا بذلك ، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون ، عليهما السلام ، أن يتخذوا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط; ليكونوا على أهبة من الرحيل ، إذا أمروا به ، ليعرف بعضهم بيوت بعض . وقوله : واجعلوا بيوتكم قبلة قيل : مساجد . وقيل : معناه كثرة الصلاة فيها . ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر ، والشدة ، والضيق ، بكثرة الصلاة; كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . وقيل : معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ، ومعابدهم ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم ، عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان ، الذي اقتضى حالهم إخفاءه; خوفا من فرعون وملئه . والمعنى الأول أقوى; لقوله : وبشر المؤمنين وإن كان لا ينافي الثاني أيضا ، والله أعلم . وقال سعيد بن جبير واجعلوا بيوتكم قبلة أي; متقابلة .

            وقال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب : استأذن بنو إسرائيل فرعون ، في الخروج إلى عيد لهم ، فأذن لهم وهو كاره ، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له ، وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده; ليتخلصوا منهم ، ويخرجوا عنهم ، وأوحى الله إلي موسى يأمره بالمسير ببني إسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدسة  ، فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرأة عجوز فأرته مكانه في النيل ، فاستخرجه موسى ، وهو في صندوق مرمر ، فأخذه معه فسار ، وأمر بني إسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم ، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئا كثيرا .

            وخرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون ، وكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وهارون على مقدمتهم فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام ، عمر موسى حين خروجه من مصر قال علماء السير: وكان لموسى حين خرج من مصر ثمانون سنة ، ويقال: إن بين مولد إبراهيم إلى خروج موسى ببني إسرائيل من مصر خمسمائة وخمس سنين ، وأن من هبوط آدم إلى خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ثلاثة آلاف سنة وثمانمائة وأربعين سنة . فلما علم بذهابهم فرعون ، حنق عليهم كل الحنق ، واشتد غضبه عليهم ، وشرع في استحثاث جيشه ، وجمع جنوده ليلحقهم ، ويمحقهم وقال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده ، طالبا بني إسرائيل ، يقفو أثرهم ، كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل : كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم . وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف ، وستمائة ألف . فالله أعلم . وقيل : إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية ، وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل ، أربعمائة سنة وست وعشرين سنة شمسية .

            والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود ، فأدركهم عند شروق الشمس ، وتراءى الجمعان ، ولم يبق ثم ريب ، ولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه ، وتحققه ورآه ، ولم يبق إلا المقاتلة ، والمجاولة ، والمحاماة ، فعندها قال أصحاب موسى ، وهم خائفون : إنا لمدركون وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر ، فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه ، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه ، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم ، وهي شاهقة منيفة ، وفرعون قد غالقهم وواجههم ، وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده ، وهم منه في غاية الخوف والذعر ، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والنكر ، فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه ، مما قد شاهدوه وعاينوه ، فقال لهم الرسول الصادق المصدوق : كلا إن معي ربي سيهدين وكان في الساقة ، فتقدم إلى المقدمة ، ونظر إلى البحر ، وهو يتلاطم بأمواجه ، ويتزايد زبد أجاجه ، وهو يقول : هاهنا أمرت . ومعه أخوه هارون; ويوشع بن نون ، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل ، وعلمائهم ، وعبادهم الكبار ، وقد أوحى الله إليه ، وجعله نبيا بعد موسى وهارون عليهما السلام ، ، ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون ، وهم وقوف ، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف . ويقال : إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر ، هل يمكن سلوكه؟ فلا يمكن ، ويقول لموسى ، عليه السلام : يا نبي الله أهاهنا أمرت؟ فيقول : نعم . فلما تفاقم الأمر ، وضاق الحال واشتد الأمر ، واقترب فرعون وجنوده في جدهم ، وحدهم وحديدهم ، وغضبهم ، وحنقهم ، وزاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير ، رب العرش الكريم إلى موسى الكليم : أن اضرب بعصاك البحر فلما ضربه ، يقال : إنه قال له : انفلق بإذن الله . ويقال : إنه كناه بأبي خالد . فالله أعلم . قال الله تعالى : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ويقال : إنه انفلق اثني عشرة طريقا ، لكل سبط طريق يسيرون فيه ، حتى قيل : إنه صار أيضا شبابيك; ليرى بعضهم بعضا . وفي هذا نظر; لأن الماء جرم شفاف ، إذا كان من ورائه ضياء حكاه . وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة عن الذي يقول للشيء : كن . فيكون . وأمر الله ريح الدبور فلفحت حال البحر ، فأذهبته حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب .

            قال الله تعالى : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى [ طه : 77 - 79 ] . والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال ، بإذن الرب العظيم الشديد المحال ، أمر موسى ، عليه السلام ، أن يجوزه ببني إسرائيل ، فانحدروا فيه مسرعين ، مستبشرين ، مبادرين ، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ، ويهدي قلوب المؤمنين ، فلما جاوزوه ، وجاوزه ، وخرج آخرهم منه ، وانفصلوا عنه ، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ، ووفودهم عليه ، فأراد موسى عليه السلام ، أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه; لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ، ولا سبيل عليه ، فأمره القدير ذو الجلال ، أن يترك البحر على هذه الحال ، كما قال ، وهو الصادق في المقال فلما تركه على هيئته وحالته ، وانتهى فرعون ، فرأى ما رأى ، وعاين ما عاين ، هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك ، من أن هذا من فعل رب العرش الكريم ، فأحجم ولم يتقدم ، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم ، والحالة هذه ، حيث لا ينفعه الندم ، لكنه أظهر لجنوده تجلدا ، وعاملهم معاملة العدا ، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة ، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه ، وعلى باطله تابعوه : انظروا كيف انحسر البحر لي; لأدرك عبيدي الآبقين من يدي ، الخارجين عن طاعتي وبلدي؟ وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ، ويرجو أن ينجو وهيهات ، ويقدم تارة ، ويحجم تارات . فذكروا أن جبريل عليه السلام ، تبدى في صورة فارس ، راكب على رمكة حائل ، فمر بين يدي فحل فرعون ، لعنه الله ، فحمحم إليها ، وأقبل عليها ، وأسرع جبريل بين يديه ، فاقتحم البحر ، واستبق الجواد ، وقد أجاد فبادر مسرعا ، هذا وفرعون لا يملك من نفسه ولا لنفسه ضرا ولا نفعا ، فلما رأته الجنود قد سلك البحر ، اقتحموا وراءه مسرعين ، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين ، حتى هم أولهم بالخروج منه ، فعند ذلك ، أمر الله تعالى كليمه صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه ، أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه ، فارتطم عليهم البحر كما كان ، فلم ينج منهم إنسان . قال الله تعالى : وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد ، وإغراقه أعداءه ، فلم يخلص منهم أحد ، آية عظيمة ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة ، وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة ، والمناهج المستقيمة .

            وقال تعالى : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون [ يونس : 90 - 92 ] . يخبر تعالى ، عن كيفية غرق فرعون ، زعيم كفرة القبط ، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة ، وترفعه أخرى ، وبنو إسرائيل ينظرون إليه ، وإلى جنوده ، ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ، ليكون أقر لأعين بني إسرائيل ، وأشفى لنفوسهم ، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به ، وباشر سكرات الموت ، أناب حينئذ وتاب ، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها وقال أبو داود الطيالسي بسنده عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة وفي بعض الروايات : إن جبريل قال : ما بغضت أحدا بغضي لفرعون ، حين قال : أنا ربكم الأعلى . ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال عدم قبول إيمان فرعون وقوله تعالى : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين استفهام إنكار ، ونص على عدم قبوله تعالى منه; ذلك لأنه ، والله أعلم ، لو رد إلى الدنيا كما كان ، لعاد إلى ما كان عليه ، كما أخبر تعالى عن الكفار ، إذا عاينوا النار وشاهدوها ، أنهم يقولون : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [ الأنعام : 27 ] . قال الله : بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ الأنعام : 28 ] . وقوله : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية قال ابن عباس وغير واحد : شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون ، حتى قال بعضهم : إنه لا يموت . فأمر الله البحر ، فرفعه على مرتفع - قيل : على وجه الماء . وقيل : على نجوة من الأرض - وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه; ليتحققوا بذلك هلاكه ، ويعلموا قدرة الله عليه; ولهذا قال : فاليوم ننجيك ببدنك أي; مصاحبا درعك المعروفة بك لتكون أي; أنت آية لمن خلفك أي; من بني إسرائيل ، دليلا على قدرة الله الذي أهلكه . ولهذا قرأ بعض السلف : ( لتكون لمن خلقك آية ) . ويحتمل أن يكون المراد : ننجيك مصاحبا درعك; ليكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل ، على معرفتك ، وأنك هلكت ، والله أعلم . وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء .

            كما قال الإمام البخاري في " صحيحه " بسنده عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون . قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنتم أحق بموسى منهم فصوموا وأصل هذا الحديث في " الصحيحين " وغيرهما . والله أعلم .

            ولما أغرق الله فرعون وجنوده ، حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب ، وقالوا : نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود . وهو تسبيح طويل . قالوا : وأخذت مريم النبية ، أخت هارون دفا بيدها ، وخرج النساء في أثرها ، كلهن بدفوف وطبول ، وجعلت مريم ترتل لهن وتقول : سبحان الرب القهار ، الذي قهر الخيول وركبانها ، إلقاء في البحر . هكذا رأيته في كتابهم . ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران ، أم عيسى ، هي أخت هارون وموسى ، مع قوله : يا أخت هارون وقد بينا غلطه في ذلك ، وأن هذا لا يمكن أن يقال ، ولم يتابعه أحد عليه ، بل كل واحد خالفه فيه ، ولو قدر أن هذا محفوظ ، فهذه مريم بنت عمران ، أخت موسى وهارون ، عليهما السلام ، وأم عيسى عليها السلام ، وافقتها في الاسم ، واسم الأب ، واسم الأخ; لأنهم كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران ، عن قوله : يا أخت هارون فلم يدر ما يقول لهم ، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ، فقال : أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم رواه مسلم . وقولهم : النبية . كما يقال للمرأة من بيت الملك : ملكة . ومن بيت الإمرة : أميرة . وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك ، فكذا هذه استعارة لها ، لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها . وضربها بالدف في مثل هذا اليوم - الذي هو أعظم الأعياد عندهم - دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد . وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء; لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة تضربان بالدف في أيام منى ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع ، مول ظهره إليهم ، ووجهه إلى الحائط ، فلما دخل أبو بكر زجرهن ، وقال : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : دعهن يا أبا بكر ، فإن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا وهكذا يشرع عندنا في الأعراس ، ولقدوم الغياب ، كما هو مقرر في موضعه . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية