الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم إن موسى ، عليه السلام ، لما انفصل من بلاد مصر ، أمره الله تعالى /أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحا بلد الجبارين ، وهي أرض بيت المقدس فوجد فيها قوما من الجبارين ، من الحيثانيين ، والفزاريين ، والكنعانيين ، وغيرهم فأمرهم موسى ، عليه السلام ، بالدخول عليهم ، ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس ، فإن الله كتبه لهم ، ووعدهم إياه ، على لسان إبراهيم الخليل ، وموسى الكليم الجليل ، فأبوا ونكلوا عن الجهاد ، فذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم ، إحسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية ، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ، ومقاتلة أعدائه ، فقال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم أي; تنكصوا على أعقابكم ، وتنكلوا على قتال أعدائكم . فتنقلبوا خاسرين أي; فتخسروا بعد الربح ، وتنقصوا بعد الكمال . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي; عتاة كفرة متمردين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ، خافوا من هؤلاء الجبارين ، وقد عاينوا هلاك فرعون ، وهو أجبر من هؤلاء ، وأشد بأسا ، وأكثر جمعا ، وأعظم جندا . وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ، ومذمومون على هذه الحالة ، من الذلة عن مصاولة الأعداء ، ومقاومة المردة الأشقياء .

            وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثارا ، فيها مجازفات كثيرة باطلة ، يدل العقل والنقل على خلافها; من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا ، حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل ، لما قدموا عليهم ، تلقاهم رجل من رسل الجبارين ، فجعل يأخذهم واحدا واحدا ، ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله ، وهم اثنا عشر رجلا ، فجاء بهم ، فنثرهم بين يدي ملك الجبارين ، فقال : ما هؤلاء؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه . وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقة لها ، وأن الملك بعث معهم عنبا ، كل عنبة تكفي الرجل ، وشيئا من ثمارهم; ليعلموا ضخامة أشكالهم ، وهذا ليس بصحيح . ولو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم ، وقد ذمهم الله على نكولهم ، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ، ومخالفتهم رسولهم ، وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام ، ونهياهم عن الإحجام . ويقال : إنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد .

            قال رجلان من الذين يخافون أي; يخافون الله وقرأ بعضهم : ( يخافون ) ; أي يهابون ، أنعم الله عليهما أي; بالإسلام ، والإيمان ، والطاعة ، والشجاعة : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين أي; إذا توكلتم على الله ، واستعنتم به ، ولجأتم إليه ، نصركم على عدوكم ، وأيدكم عليهم ، وأظفركم بهم .

            قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون فصمم ملؤهم علىالنكول عن الجهاد ، ووقع أمر عظيم ، ووهن كبير . فيقال : إن يوشع ، وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما ، وإن موسى وهارون ، عليهما السلام ، سجدا; إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عز وجل ، وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة .

            قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال ابن عباس : اقض بيني وبينهم . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض ، يسيروا إلى غير مقصد ، ليلا ونهارا ، وصباحا ومساء . ويقال : إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله ، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ، ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع ، وكالب ، عليهما السلام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية