الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة عبادتهم العجل في غيبة كليم الله موسى ، عليه السلام حين ذهب موسى ، عليه السلام ، إلى ميقات ربه ، فمكث على الطور يناجيه ربه ، ويسأله موسى ، عليه السلام ، عن أشياء كثيرة ، وهو تعالى يجيبه عنها ، فعمد رجل منهم يقال له : السامري . وكان من أهل باجرمى ، وقيل : من بني إسرائيل . واسم السامري منجا ، كذلك ضبطه ابن المنادي . فأخذ السامريي ما كان استعاروه من الحلي فصاغ منه عجلا ، وألقى فيه قبضة من التراب ، كان أخذها من أثر فرس جبريل ، حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه ، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي ، ويقال : إنه استحال عجلا جسدا . أي لحما ودما ، حيا يخور . قاله قتادة وغيره . وقيل : بل كانت الريح إذا دخلت من دبره ، خرجت من فمه ، فيخور كما تخور البقرة ، فيرقصون حوله ويفرحون . فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي فنسي موسى ربه عندنا ، وذهب يتطلبه ، وهو هاهنا . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وتقدست أسماؤه وصفاته ، وتضاعفت آلاؤه وعداته . قال الله تعالى ، مبينا لهم بطلان ما ذهبوا إليه ، وما عولوا عليه ، من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما وشيطانا رجيما : أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا وقال : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ، ولا يرد جوابا ولا يملك ضرا ولا نفعا ، ولا يهدي إلى رشد ، اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال ، ولما سقط في أيديهم أي; ندموا على ما صنعوا ، ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين .

            ولما رجع موسى ، عليه السلام ، إليهم ، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل ، ومعه الألواح المتضمنة التوراة ، ألقاها ، فيقال : إنه كسرها . وهكذا هو عند أهل الكتاب ، وإن الله أبدله غيرها . وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك ، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين . وعند أهل الكتاب ، أنهما كانا لوحين . وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة ، ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى ، عن عبادة العجل ، فأمره بمعاينة ذلك . ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وابن حبان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الخبر كالمعاينة . ثم أقبل عليهم فعنفهم ، ووبخهم ، وهجنهم في صنيعهم ، هذا القبيح ، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح; قالوا : إنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري تحرجوا من تملك حلي آل فرعون ، وهم أهل حرب ، وقد أمرهم الله بأخذه ، وأباحه لهم ولم يتحرجوا بجهلهم ، وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد ، الذي له خوار ، مع الواحد الأحد ، الفرد الصمد القهار . ثم أقبل على أخيه هارون ، عليهما السلام ، قائلا له : قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أي; هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا ، فقال : إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي; تركتهم وجئتني ، وأنت قد استخلفتني فيهم ، قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين وقد كان هارون ، عليه السلام ، نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي ، وزجرهم عنه أتم الزجر ، قال الله تعالى : ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم أي; إنما قدر الله أمر هذا العجل ، وجعله يخور فتنة واختبارا لكم . وإن ربكم الرحمن أي; لا هذا العجل فاتبعوني أي; فيما أقول لكم ، وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى يشهد الله لهارون ، عليه السلام ، وكفى بالله شهيدا ، أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك ، فلم يطيعوه ولم يتبعوه ، سؤال موسى السامري عن سبب فعله ثم أقبل موسى ، عليه السلام ، على السامري قال فما خطبك يا سامري أي; ما حملك على ما صنعت . قال بصرت بما لم يبصروا به أي; رأيت جبرائيل ، وهو راكب فرسا فقبضت قبضة من أثر الرسول أي; من أثر فرس جبريل . وقد ذكر بعضهم أنه رآه وكان كلما وطئت بحوافرها على موضع ، اخضر وأعشب ، فأخذ من أثر حافرها ، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب ، كان من أمره ما كان ، ولهذا قال : فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا; معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه . هذا معاقبة له في الدنيا ، ثم توعده في الأخرى فقال : وإن لك موعدا لن تخلفه قرئ : ( لن نخلفه ) . وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا قال : فعمد موسى ، عليه السلام ، إلى هذا العجل فحرقه ، قيل : بالنار . كما قاله قتادة ، وغيره . وقيل : بالمبارد . كما قاله علي ، وابن عباس ، وغيرهما . وهو نص أهل الكتاب . ثم ذراه في البحر ، وأمر بني إسرائيل فشربوا ، فمن كان من عابديه ، علق على شفاههم من ذلك الرماد منه ما يدل عليه ، وقيل : بل اصفرت ألوانهم .

            غضب الله على من عبدوا العجل ثم قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لهم : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما وقال تعالى : إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين وهكذا وقع ، وقد قال بعض السلف وكذلك نجزي المفترين مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة . ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه ، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه ، بتوبته عليه فقال : والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل ، كما قال تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم [ البقرة : 54 ] . فيقال : إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف ، وألقى الله عليه ضبابا ، حتى لا يعرف القريب قريبه ، ولا النسيب نسيبه ، ثم مالوا على عابديه ، فقتلوهم ، وحصدوهم . فيقال : إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا . ثم قال تعالى : ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون استدل بعضهم بقوله : وفي نسختها على أنها تكسرت ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت ، والله أعلم . وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون ، كما سيأتي ، أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر ، وما هو ببعيد; لأنهم حين خرجوا قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .

            وهكذا عند أهل الكتاب ، فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل ، قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف . ثم ذهب موسى يستغفر لهم ، فغفر لهم ، بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية