الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين

            قال الواقدي : كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، جالسا ذات يوم ; إذ جاء غلام له ، ودمه يسيل على عقبيه ، فقال له سعد : من فعل بك هذا ؟ فقال : ابنك عمر . فقال سعد : اللهم اقتله وأسل دمه . وكان سعد مستجاب الدعوة ، فلما ظهر المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة ، وكان صديقا للمختار من قرابته من علي ، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أمانا مضمونه أنه آمن على نفسه وأهله وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره ما لم يحدث حدثا ، وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط ، ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله خرج من منزله ليلا يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد فنمى للمختار بعض مواليه ذلك . فقال المختار : وأي حدث أعظم من هذا ؟ وقيل : إن مولاه قال له ذلك ، وقال له : تخرج من منزلك ورحلك ؟ ارجع . فرجع . ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له : هل أنت مقيم على أمانك ؟ وقيل : إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك ، فقال له المختار : اجلس . وقيل : إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له : هل أنت مقيم على أمانك له ؟ فقال له المختار : اجلس . فلما جلس قال المختار : لصاحب حرسه : اذهب فأتني برأسه ، فذهب إليه فقتله ، وأتاه برأسه .

            وفي رواية أن المختار قال ليلة : لأقتلن غدا رجلا عظيم القدمين ، غائر العينين ، مشرف الحاجبين ، يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون ، وكان الهيثم بن الأسود حاضرا فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد ، فبعث إليه ابنه العريان فأنذره ، فقال : كيف يكون هذا بعدما أعطاني من العهود والمواثيق ؟ وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولا ، وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثا . قال أبو مخنف : وكان أبو جعفر الباقر يقول : إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه . ثم إن عمر بن سعد قلق أيضا ، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة ، ثم صار أمره أنه رجع إلى داره ، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع ، فقال : كلا والله ، إن في عنقه سلسلة ترده لو جهد أن ينطلق ما استطاع ، ثم أصبح فبعث إليه أبا عمرة ، فدخل عليه ، فقال : أجب الأمير ، فقام عمر ، فعثر في جبته ، فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله ، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار ، فقال المختار لابنه حفص بن عمر - وكان جالسا عند المختار - : أتعرف هذا الرأس ؟ فاسترجع وقال : نعم ، ولا خير في العيش بعده ، فقال : صدقت ، ثم أمر به فضربت عنقه ، ووضع رأسه مع رأس أبيه ، ثم قال المختار هذا بالحسين ، وهذا بعلي بن الحسين الأكبر ، ولا سواء ، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله . وكان السبب في تهيج المختار على قتله أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى محمد بن الحنفية ، وسلم عليه ، وجرى الحديث إلى أن تذاكرا المختار ، فقال ابن الحنفية : إنه يزعم أنه لنا شيعة ، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه .

            فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك ، فقتل عمرو بن سعد ، وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية ، وكتب إليه يعلمه أنه قد قتل من قدر عليه ، وأنه في طلب الباقين ممن حضر قتل الحسين .

            قال عبد الله بن شريك : أدركت أصحاب الأردية المعلمة ، وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري ، إذا مر بهم عمرو بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتله . وقال ابن سيرين : قال علي لعمرو بن سعد : كيف كنت إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار ؟ كتاب المختار بن أبي عبيد الثقفي إلى محمد بن الحنفية وكتب إليه كتابا فيه :

            بسم الله الرحمن الرحيم للمهدي محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد سلام عليك أيها المهدي فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم ، فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد ، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم ونصر مؤازركم ، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه ، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه ، ولن يعجز الله من بقي ، ولست بمنحجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم إرميا فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكن عليه ، والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته .

            ولم يذكر ابن جرير أن محمدا ابن الحنفية رد جوابه ، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل وأطال شرحه ، ويظهر من غبون كلامه ونظامه قوة وجده به وغرامه ، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى ، وهو متهم فيما يرويه ، ولا سيما في باب التشيع ، وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام ، إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم والانتقام منهم . ولا شك أن قتل قتلته كان متحتما ، والمبادرة إليه كان مغنما ، ولكن إنما قدره الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافرا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون : وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون وقال بعض الشعراء :

            وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بظالم

            وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه ، وادعائه نصرة أهل البيت ، وهو في نفس الأمر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعا من الشيعة الذين بالكوفة ; ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة .

            ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه ، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء بنت الصديق إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير فهذا هو الكذاب ، وهو يظهر التشيع ، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي ، وكان الحجاج عكس هذا ؛ كان ناصبيا جلدا ظالما غاشما ، ولكن لم يكن في طبقة هذا ، يتهم على دين الإسلام ، ودعوى النبوة ، وأنه يأتيه الوحي من العلي العلام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية