قال الواقدي : كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، جالسا ذات يوم ; إذ جاء غلام له ، ودمه يسيل على عقبيه ، فقال له سعد : من فعل بك هذا ؟ فقال : ابنك عمر . فقال سعد : اللهم اقتله وأسل دمه . وكان سعد مستجاب الدعوة ، فلما ظهر المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة ، وكان صديقا للمختار من قرابته من علي ، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أمانا مضمونه أنه آمن على نفسه وأهله وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره ما لم يحدث حدثا ، وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط ، ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله خرج من منزله ليلا يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد فنمى للمختار بعض مواليه ذلك . فقال المختار : وأي حدث أعظم من هذا ؟ وقيل : إن مولاه قال له ذلك ، وقال له : تخرج من منزلك ورحلك ؟ ارجع . فرجع . ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له : هل أنت مقيم على أمانك ؟ وقيل : إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك ، فقال له المختار : اجلس . وقيل : إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له : هل أنت مقيم على أمانك له ؟ فقال له المختار : اجلس . فلما جلس قال المختار : لصاحب حرسه : اذهب فأتني برأسه ، فذهب إليه فقتله ، وأتاه برأسه . مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين
وفي رواية أن المختار قال ليلة : لأقتلن غدا رجلا عظيم القدمين ، غائر العينين ، مشرف الحاجبين ، يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون ، وكان الهيثم بن الأسود حاضرا فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد ، فبعث إليه ابنه العريان فأنذره ، فقال : كيف يكون هذا بعدما أعطاني من العهود والمواثيق ؟ وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولا ، وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثا . قال أبو مخنف : وكان أبو جعفر الباقر يقول : إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه . ثم إن عمر بن سعد قلق أيضا ، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة ، ثم صار أمره أنه رجع إلى داره ، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع ، فقال : كلا والله ، إن في عنقه سلسلة ترده لو جهد أن ينطلق ما استطاع ، ثم أصبح فبعث إليه أبا عمرة ، فدخل عليه ، فقال : أجب الأمير ، فقام عمر ، فعثر في جبته ، فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله ، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار ، فقال المختار لابنه حفص بن عمر - وكان جالسا عند المختار - : أتعرف هذا الرأس ؟ فاسترجع وقال : نعم ، ولا خير في العيش بعده ، فقال : صدقت ، ثم أمر به فضربت عنقه ، ووضع رأسه مع رأس أبيه ، ثم قال المختار هذا بالحسين ، وهذا بعلي بن الحسين الأكبر ، ولا سواء ، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله . وكان السبب في تهيج المختار على قتله أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى محمد بن الحنفية ، وسلم عليه ، وجرى الحديث إلى أن تذاكرا المختار ، فقال ابن الحنفية : إنه يزعم أنه لنا شيعة ، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه .
فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك ، فقتل عمرو بن سعد ، وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية ، وكتب إليه يعلمه أنه قد قتل من قدر عليه ، وأنه في طلب الباقين ممن حضر قتل الحسين .
قال عبد الله بن شريك : أدركت أصحاب الأردية المعلمة ، وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري ، إذا مر بهم عمرو بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتله . وقال ابن سيرين : قال علي لعمرو بن سعد : كيف كنت إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار ؟ كتاب المختار بن أبي عبيد الثقفي إلى محمد بن الحنفية وكتب إليه كتابا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم للمهدي محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد سلام عليك أيها المهدي فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم ، فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد ، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم ونصر مؤازركم ، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه ، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه ، ولن يعجز الله من بقي ، ولست بمنحجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم إرميا فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكن عليه ، والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته .
ولم يذكر ابن جرير أن محمدا ابن الحنفية رد جوابه ، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل وأطال شرحه ، ويظهر من غبون كلامه ونظامه قوة وجده به وغرامه ، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى ، وهو متهم فيما يرويه ، ولا سيما في باب التشيع ، وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام ، إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم والانتقام منهم . ولا شك أن قتل قتلته كان متحتما ، والمبادرة إليه كان مغنما ، ولكن إنما قدره الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافرا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون : إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون وقال بعض الشعراء :
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه ، وادعائه نصرة أهل البيت ، وهو في نفس الأمر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعا من الشيعة الذين بالكوفة ; ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة .ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه ، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء بنت الصديق إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير فهذا هو الكذاب ، وهو يظهر التشيع ، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي ، وكان الحجاج عكس هذا ؛ كان ناصبيا جلدا ظالما غاشما ، ولكن لم يكن في طبقة هذا ، يتهم على دين الإسلام ، ودعوى النبوة ، وأنه يأتيه الوحي من العلي العلام .