قوله تعالى : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا .
أخرج ، ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن والخطيب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ابن عمر موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ .
[ ص: 188 ] يقول الله : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم . إنما قتل
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : مجاهد فنجيناك من الغم قال : من قتل النفس : وفتناك فتونا قال : أخلصناك إخلاصا .
وأخرج ، سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وفتناك فتونا قال : أبتليناك ابتلاء .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وفتناك فتونا قال : ابتليناك ببلاء نعمة .
وأخرج ، ابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وفتناك فتونا قال : اختبرناك اختبارا .
وأخرج عن عبد بن حميد في قوله : مجاهد وفتناك فتونا قال : بلاء إلقائه في التابوت، ثم في اليم، ثم التقاط آل فرعون إياه ثم خروجه خائفا يترقب .
وأخرج ابن أبي عمر العدني في " مسنده " ، ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن [ ص: 189 ] جبير قال : سألت عن قول الله تعالى ابن عباس لموسى عليه السلام : وفتناك فتونا . فسألت عن الفتون ما هو فقال : استأنف النهار يا فإن لها حديثا طويلا . فلما أصبحت غدوت على ابن جبير؛ لأتنجز ما وعدني من حديث الفتون، فقال : تذاكر ابن عباس فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون فيه ، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك ، قالوا : ليس هذا كان وعد الله إبراهيم . قال فرعون : فكيف ترون ؟ فأتمروا بينهم ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل ؛ فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، ففعلوا، فلما رأوا أن الكبار يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن يفنى بنو إسرائيل ، فتصيروا أن تباشروا الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر ، فيقل أبناؤهم ، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا ، فتشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا فتخافون مكاثرتهم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون ، فتحتاجون إليهم . فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، حتى إذا كان في قابل حملت بموسى ، فوقع في قلبها الهم [ ص: 190 ] والحزن ، وذلك من الفتون يا ؛ ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها أن : ابن جبير ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ القصص : 7 ] ، وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ، ثم تلقيه في اليم ، فلما ولدته فعلت ما أمرت به ، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها الشيطان ، وقالت في نفسها : ما فعلت بابني ؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى دواب البحر وحيتانه .
فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون ، فرأينه فأخذنه ، فهممن أن يفتحن الباب ، فقال بعضهن لبعض : إن في هذا لمالا ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه . فحملنه بهيئته لم يحركن منه شيئا حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه الغلام ، فألقي عليه منها محبة لم يلق منها على أحد من البشر قط وأصبح فؤاد أم موسى فارغا [ القصص : 10 ] من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى .
فلما سمع الذباحون بأمره، أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم ، يريدون أن يذبحوه - وذلك من الفتون يا . فقالت للذباحين : آمروني ، فإن هذا [ ص: 191 ] الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، فإني آتي ابن جبير فرعون فأستوهبه إياه ، فإن وهبه لي فقد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم . فلما أتت به فرعون ، قالت : قرت عين لي ولك [ القصص : 9 ] ، قال فرعون : يكون لك ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما قالت امرأته ، لهداه الله به كما هدى به امرأته ، ولكن الله عز وجل حرمه ذلك .
فأرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن ، لتختار له ظئرا ، فكلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها ، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ منها ، فلم يفعل ، وأصبحت أم موسى والها ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ؟ أحي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت الذي كان وعدها الله .
فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون - والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه، وهو لا يشعر به - فقالت من الفرح حين [ ص: 192 ] أعياهم الظئورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها ، فقالوا : وما يدريك ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك - وذلك من الفتون يا - فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك رجاء منفعته . فتركوها ، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر ، فجاءت ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها : إنا قد وجدنا لابنك ظئرا . فأرسلت إليها فأتيت بها وبه ، فلما رأت ما يصنع بها ، قالت لها : امكثي عندي أرضعي ابني هذا، فإني لم أحب حبه شيئا قط ، قالت : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا- فعلت ، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي . فذكرت ابن جبير أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك ، وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده .
فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها ، فأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قضى فيه، ، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية القرية، يمتنعون به من الظلم والسخرة منذ كان فيهم . فلما ترعرع ، قالت امرأة فرعون لأم موسى : أزيريني ابني . فوعدتها يوما تزورها فيه به ، فقالت لخزانها [ ص: 193 ] وظئورها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم اليوم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه ، وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها . فلما دخل عليها أكرمته ونحلته وفرحت به ، وأعجبها ، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لأنطلقن به إلى فرعون ، فلينحلنه وليكرمنه .
فلما دخلت به عليه جعلته في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض ، فقالت له الغواة من أعداء الله : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم! إنه يرثك ويصرعك ويعلوك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ، بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا - فجاءت امرأة ابن جبير فرعون تسعى إلى فرعون ، فقالت : ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي ؟ قال : ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني ويعلوني ! قالت له : اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب ذلك إليه ، فتناول الجمرتين ، [ ص: 194 ] فانتزعوهما منه مخافة أن يحرقا بدنه ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ وصرفه الله عنه بعدما كان قد هم به ، وكان الله بالغ أمره فيه . فلما بلغ أشده ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل امتناع .
فبينما هو يمشي في ناحية المدينة ، إذ هو برجلين يقتتلان ، أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتد غضبه ؛ لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، ولا يعلم إلا أنما ذلك من الرضاع، غير أم موسى ، إلا أن يكون الله تعالى أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع غيره عليه ، فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين [ القصص : 15 ] ، ثم قال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له [ القصص : 16 ] . وأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار ، فأتي فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم . فقال : ائتوني قاتله ومن شهد عليه ؛ لأنه لا يستقيم أن يقيد بغير بينة [ ص: 195 ] ولا ثبت ، فاطلبوا علم ذلك آخذ لكم بحقكم .
فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا ، إذ مر موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد ندم على ما كان ، وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي ، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم : إنك لغوي مبين [ القصص : 18 ] . فنظر الإسرائيلي إلى موسى حين قال ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس ، فخاف بعدما قال له : إنك لغوي مبين . أن يكون إياه أراد ، وإنما أراد الفرعوني - فقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس [ القصص : 19 ] . وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، فانطلق الفرعوني إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس . فأرسل فرعون إلى الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم ، وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر - وذلك من الفتون يا " . ابن جبير
[ ص: 196 ] فخرج موسى متوجها نحو مدين ، لم يلق بلاء مثل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه ، فإنه قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل . ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان [ القصص : 22 ، 23 ] .
يعني حابستي غنمهما ، قال : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا : ليست لنا قوة نزاحم القوم ، وإنما ننتظر فضول حياضهم . فسقى لهما ؛ فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا ، حتى كانتا أول الرعاء فراغا ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما ، وانصرف موسى إلى الشجرة فاستظل بها ، وقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [ القصص : 24 ] . واستنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، وقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فحدثتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه له ، فأتته فدعته ، فلما كلمه قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ القصص : 25 ] . ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته ، قالت ابنته : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين [ القصص : 26 ] فحملته الغيرة أن قال : وما يدريك ما قوته ؟ وما أمانته ؟ قالت : أما قوته ، فما رأيت منه حين سقى لنا ؛ لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه حين سقى لنا ، وأما الأمانة : فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له ، [ ص: 197 ] فلما علم أني امرأة صوب رأسه ولم يرفعه ، ولم ينظر إلي حين أقبلت إليه، حتى بلغته رسالتك . فقال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق . فلم يقل هذا إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت .
فقال : هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك [ القصص : 27 ] ففعل، فكانت على موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا .
قال سعيد : فسألني رجل من أهل النصرانية من علمائهم : هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا . وأنا يومئذ لا أعلم . فلقيت ، فذكرت له الذي قال النصراني ، فقال : أما كنت تعلم أن ثمانيا واجبة ، لم يكن ابن عباس لموسى لينقص منها شيئا ، وتعلم أن الله تعالى كان قاضيا عن موسى عدته التي وعد؟ فإنه قضى عشرا . فأخبرت النصراني ، فقال : الذي أخبرك بهذا هو أعلم منك . قلت : أجل ، وأولى .
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار ما قص الله عليك في القرآن وأمر العصا ويده ، فشكا إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه ؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، فسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ، ليكون له ردءا ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به . فآتاه الله سؤله ، وحل عقدة من لسانه ، وأوحى إلى هارون وأمره أن يلقى موسى .
[ ص: 198 ] فاندفع موسى بالعصا ولقي هارون . فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما ببابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا إنا رسولا ربك . قال : ومن ربكما يا موسى ؟ فأخبره بالذي قص الله في القرآن ، قال : فما تريدان ؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت . قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي بني إسرائيل ، فأبى عليه ذلك وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون . فلما رأى فرعون أنها قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه . ففعل ، وأخرج يده من جيبه بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم أعادها إلى كمه فصارت إلى لونها الأول . فاستشار الملأ فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى . يعنون ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع لهم السحرة فإنهم بأرضنا كثير حتى تغلب بسحرهم سحرهما . فأرسل فرعون في المدائن حاشرين [الشعراء : 53 ]، فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات والحبال . قالوا : فلا والله ما في الأرض قوم يعملون بالحيات والحبال والعصي بالسحر ما نعمل به ! فما أجرنا إن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع بكم كل شيء [ ص: 199 ] أحببتم ، فتواعدوا ليوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى .
قال سعيد : فحدثني : أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه ابن عباس موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء .
فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : اذهبوا فلنحضر هذا الأمر ، ونتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين . يعنون بذلك موسى وهارون استهزاء بهما ، فقالوا : يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين . قال : ألقوا . فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه : أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها ، فجعل العصا، بدعوة موسى، تلتبس بالحبال حتى صارت جزرا إلى الثعبان ، تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبالا إلا ابتلعته ، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرا لم تبتلع من سحرنا كل هذا ، ولكن هذا أمر من الله عز وجل ، آمنا بالله وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه . فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون [ ص: 200 ] فمن رآها من آل فرعون ظن أنها تبذلت شفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى .
فلما طال مكث موسى لمواعد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعد عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كشف ذلك نكث عهده، وأخلف وعده .
حتى أمر موسى بقومه فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا بعث في المدائن حاشرين ، فتبعهم جنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق له اثني عشر فرقا ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق بعد على من بقي من قوم فرعون وأشياعه . فنسي موسى أن يضرب بعصاه فدفع إلى البحر بالعصا وله قصيف ، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا .
فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون، فافعل ما أمرك به ربك فإنك لم تكذب ولم تكذب ، قال : وعدني ربي إذا انتهيت إلى البحر أن ينفرق لي حتى أجوز ، ثم ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمر الله ، وكما وعد موسى ، فلما جاز أصحاب موسى كلهم ودخل أصحاب فرعون كلهم ، التقى البحر عليهم كما أمره الله عز وجل ، فلما أن جاوز البحر قال أصحاب موسى : إنا لمدركون؛ إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه ! فدعا ربه فأخرجه له [ ص: 201 ] ببدنه من البحر حتى استيقنوا .
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم : قالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . قال : إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون ، قد رأيتم من العبر ما يكفيكم وسمعتم به . فمضى ، حتى أنزلهم منزلا، ثم قال لهم : أطيعوا هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، وإني ذاهب إلى ربي . وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما قد صامهن ليلهن ونهارهن ، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب ، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، ارجع حتى تصوم عشرة أيام ثم ائتني . ففعل موسى الذي أمره الله به .
فلما رأى قوم موسى أنه لم يأتهم للأجل ، ساءهم ذلك . وكان هارون قد خطبهم وقال لهم : إنكم خرجتم من مصر ، وعندكم ودائع لقوم فرعون وعواري، ولكم فيهم مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا ما كان لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا نرى أداء شيء من ذلك [ ص: 202 ] إليهم ولا ممسكيه ، فحفر حفيرة ، وأمر كل قوم عندهم شيء من ذلك من متاع أو حلية بأن يدفنوه في الحفيرة ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، وقال : لا يكون لنا ولا لهم .
وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، ليس من بني إسرائيل بل جار لهم، فاحتمل مع بني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثر الفرس، فقبض منه قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون : يا سامري ، ألا تلقي ما في يديك ؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، فلا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد . قال : فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا . فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع؛ نحاس أو حديد أو حلي ، فصار عجلا أجوف . ليس فيه روح ، له خوار .
فقال : والله ، ما كان له صوت ، ولكن الريح كانت تدخل من دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك . ابن عباس
فتفرق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامري، ما هذا فإنك أنت أعلم به ؟ فقال : هذا ربكم ولكن موسى أخطأ الطريق . فقالوا : لا نكذب بهذا حتى [ ص: 203 ] يرجع إلينا موسى ، فإن يك ربنا لم نكن ضيعنا وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى . وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان ، وليس ربنا ولا نصدق به ولا نؤمن ، وأشرب فرقة في قلوبهم التصديق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب ، فقال لهم هارون : يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ، وليس هكذا، قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما، ثم أخلفنا ، فهذه أربعون ليلة ؟ فقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه .
فلما كلم الله موسى وقال ما قال له ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ، فقال لهم ما سمعتم في القرآن ، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه من الغضب ، غير أنه عذر أخاه واستغفر ربه، ثم انصرف إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : قبضت قبضة من أثر الرسول ، وفطنت لها وعميت عليكم، فقذفتها ، وكذلك سولت لي نفسي، قال : فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس إلى قوله : في اليم نسفا ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه .
فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه رأي هارون ، فقالوا : يا موسى ، سل ربك أن يفتح لنا باب توبة نعملها وتكفر عنا ما عملنا . فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير؛ خيار بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم ليسأل ربهم التوبة ، فرجفت الأرض بهم ، فاستحيا موسى عليه السلام من قومه ووفده حين فعل بهم ذلك ، فقال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا [ ص: 204 ] الآية [ الأعراف : 155 ] ومنهم من قد اطلع الله منه على ما أشرب قلبه العجل والإيمان به ؛ فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون إلى قوله : والإنجيل [ الأعراف : 156 ] . فقال : رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي ، فليتك أخرتني حتى أخرج في أمة ذلك الرجل المرحومة . قال الله عز وجل : فإن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن . فتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون، وما اطلع الله عليهم من ذنوبهم فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا به ، فغفر الله للقاتل والمقتول .
ثم سار بهم موسى متوجها نحو الأرض المقدسة ، فأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، وأمرهم بالذي أمره الله أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الأرض ، والكتاب الذي أخذوه بأيديهم ، وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم .
ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا فيها مدينة جبارين خلقهم خلق [ ص: 205 ] منكر ، وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها - فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ، لا طاقة لنا اليوم بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الجبارين ، آمنا بموسى ، فخرجا إليه ، فقالا : نحن أعلم بقومنا، إن كنتم تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم ليس لهم قلوب، ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . ويقول أناس : إنهما من قوم موسى . وزعم سعيد أنهما من الجبارين آمنا بموسى ، يقول : من الذين يخافون أنعم الله عليهما [ المائدة : 23 ] وإنما يعني بذلك الذين يخافهم بنو إسرائيل ، فقالوا : قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [ المائدة : 24 ] . فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم فسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك ، لما رأى فيهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم فيسيرون ، ليس لهم قرار .
ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه . فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاث عيون ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول .
[ ص: 206 ] رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق ذلك عندي أن ابن عباس سمع من معاوية بن أبي سفيان هذا الحديث ، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني هو الذي أفشى على ابن عباس موسى أمر القتيل . وقال : إنما أفشى عليه الإسرائيلي . فأخذ بيده فانطلق به إلى ابن عباس سعد بن مالك الزهري ، فقال : أرأيت يوم حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى من آل فرعون ؟ من أفشى عليه، الإسرائيلي أم الفرعوني ؟ قال : أفشى عليه الفرعوني ، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره .