باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن جن رمضان كله أو بعضه : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري : " إذا
nindex.php?page=treesubj&link=2377_2353_2351كان مجنونا في رمضان كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس فيمن بلغ ، وهو مجنون مطيق
[ ص: 229 ] فمكث سنين ثم أفاق : " فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا يقضي الصلاة " . وقال
عبيد الله بن الحسن في المعتوه يفيق وقد ترك الصلاة والصوم " فليس عليه قضاء ذلك " وقال في المجنون الذي يجن ثم يفيق أو الذي يصيبه المرة ثم يفيق : " أرى على هذا أن يقضي " .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في
nindex.php?page=showalam&ids=13920البويطي : " ومن جن في رمضان فلا قضاء عليه ، وإن صح في يوم من رمضان قبل أن تغيب الشمس كذلك لا قضاء عليه " . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فمن شهد منكم الشهر فليصمه يمنع وجوب القضاء على المجنون الذي لم يفق في شيء من الشهر ؛ إذ لم يكن شاهد الشهر ، وشهوده الشهر كونه مكلفا فيه ، وليس المجنون من أهل التكليف لقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=710996رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق .
فإن قيل : إذا احتمل قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فمن شهد منكم الشهر فليصمه شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكرته من شهوده بالتكليف ، فما الذي أوجب حمله على ما ادعيت دون ما ذكرنا من حال الإقامة ؟ قيل له : لما كان اللفظ محتملا للمعنيين وهما غير متنافيين بل جائز إرادتهما معا ، وكونهما شرطا في لزوم الصوم ، وجب حمله عليهما ؛ وهو كذلك عندنا ؛ لأنه لا يكون مكلفا بالصوم غير مرخص له في تركه إلا أن يكون مقيما من أهل التكليف .
ولا خلاف أن كونه من أهل التكليف شرط في صحة الخطاب به ، وإذا ثبت ذلك ، ولم يكن المجنون من أهل التكليف في الشهر لم يتوجه إليه الخطاب بالصوم ، ولم يلزمه القضاء ؛ ويدل عليه ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=675748رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم ورفع القلم هو إسقاط التكليف عنه ويدل عليه أيضا أن الجنون معنى يستحق به الولاية عليه إذا دام به ، فكان بمنزلة الصغير إذا دام به الشهر كله في سقوط فرض الصوم .
ويفارق الإغماء هذا المعنى بعينه ؛ لأنه لا يستحق عليه الولاية بالإغماء إن طال ، وفارق المغمى عليه المجنون والصغير وأشبه الإغماء النوم في باب نفي ولاية غيره عليه من أجله .
فإن قيل : لا يصح خطاب المغمى عليه كما لا يصح خطاب المجنون والتكليف زائل عنهما جميعا ، فوجب أن لا يلزمه القضاء بالإغماء . قيل له : الإغماء وإن منع الخطاب بالصوم في حال وجوده فإن له أصلا آخر في إيجاب القضاء ، وهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وإطلاق اسم المريض على المغمى عليه جائز سائغ .
فوجب اعتبار عمومه في إيجاب القضاء عليه ، وإن لم يكن مخاطبا به حال الإغماء ؛ وأما المجنون فلا يتناوله اسم المريض
[ ص: 230 ] على الإطلاق فلم يدخل فيمن أوجب الله عليه القضاء .
وأما من أفاق من جنونه في شيء من الشهر ، فإنما ألزموه القضاء بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهذا قد شهد الشهر ؛ إذ كان من أهل التكليف في جزء منه ؛ إذ لا يخلو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فمن شهد منكم الشهر أن يكون المراد به شهود جميع الشهر أو شهود جزء منه ؛ وغير جائز أن يكون شرط لزوم الصوم شهود الشهر جميعه من وجهين :
أحدهما : تناقض اللفظ به ؛ وذلك لأنه لا يكون شاهدا لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله ، ويستحيل أن يكون مضيه شرطا للزوم صومه كله ؛ لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه ، فعلمنا أنه لم يرد شهود الشهر جميعه .
والوجه الآخر : أنه لا خلاف أن من طرأ عليه شهر رمضان ، وهو من أهل التكليف أن عليه الصوم في أول يوم منه لشهوده جزءا من الشهر ، فثبت بذلك أن شرط تكليف صوم الشهر كونه من أهل التكليف في شيء منه .
فإن قيل : فواجب إذا كان ذلك على ما وصفت من أن المراد إدراك جزء من الشهر أن لا يلزمه إلا صوم الجزء الذي أدركه دون غيره ؛ إذ قد ثبت أن المراد شهود بعض الشهر شرطا للزوم الصوم ، فيكون تقديره : " فمن شهد بعض الشهر فليصم ذلك البعض " . قيل له : ليس ذلك على ما ظننت ، من قبل أنه لولا قيام الدلالة على أن شرط لزوم الصوم شهود بعض الشهر لكان الذي يقتضيه ظاهر اللفظ استغراق الشهر كله في شرط اللزوم .
فلما قامت الدلالة على أن المراد البعض دون الجميع في شرط اللزوم حملناه عليه ، وبقي حكم اللفظ في إيجاب الجميع ؛ إذ كان الشهر اسما لجميعه ، فكان تقديره : " فمن شهد منكم شيئا من الشهر فليصم جميعه " .
فإن قيل : فإذا أفاق ، وقد بقيت أيام من الشهر ، يلزمك أن لا توجب عليه قضاء ما مضى لاستحالة تكليفه صوم الماضي من الأيام ، وينبغي أن يكون الوجوب منصرفا إلى ما بقي من الشهر قيل له : إنما يلزمه قضاء الأيام الماضية لا صومها بعينها ، وجائز لزوم القضاء مع امتناع خطابه بالصوم فيما أمر به من القضاء ، ألا ترى أن الناسي والمغمى عليه والنائم كل واحد من هؤلاء يستحيل خطابه بفعل الصوم في هذه الأحوال ، ولم تكن استحالة تكليفهم فيها مانعة من لزوم القضاء ؟ وكذلك ناسي الصلاة والنائم عنها ، فإن الخطاب بفعل الصوم يتوجه إليه على معنيين :
أحدهما : فعله في وقت التكليف ، والآخر : قضاؤه في وقت غيره ، وإن لم يتوجه إليه الخطاب بفعله في حال الإغماء والنسيان والله أعلم .
[ ص: 231 ]
بَابُ ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=14954وَأَبُو يُوسُفَ nindex.php?page=showalam&ids=16908وَمُحَمَّدٌ nindex.php?page=showalam&ids=15922وَزُفَرُ nindex.php?page=showalam&ids=16004وَالثَّوْرِيُّ : " إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=2377_2353_2351كَانَ مَجْنُونًا فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ " . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَنْ بَلَغَ ، وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطِيقٌ
[ ص: 229 ] فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ : " فَإِنَّهُ يَقْضِي صِيَامَ تِلْكَ السِّنِينَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ " . وَقَالَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمَعْتُوهِ يُفِيقُ وَقَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ " فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ " وَقَالَ فِي الْمَجْنُونِ الَّذِي يُجَنُّ ثُمَّ يُفِيقُ أَوِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْمَرَّةَ ثُمَّ يُفِيقُ : " أَرَى عَلَى هَذَا أَنْ يَقْضِيَ " .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي
nindex.php?page=showalam&ids=13920الْبُوَيْطِيِّ : " وَمَنْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَحَّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ كَذَلِكَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ " . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11943أَبُو بَكْرٍ : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّهْرِ ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَاهِدَ الشَّهْرِ ، وَشُهُودُهُ الشَّهْرَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فِيهِ ، وَلَيْسَ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=710996رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ .
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ شُهُودَهُ بِالْإِقَامَةِ وَتَرْكِ السَّفَرِ دُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ شُهُودِهِ بِالتَّكْلِيفِ ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ الْإِقَامَةِ ؟ قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ بَلْ جَائِزٌ إِرَادَتُهُمَا مَعًا ، وَكَوْنُهُمَا شَرْطًا فِي لُزُومِ الصَّوْمِ ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا ؛ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِالصَّوْمِ غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي تَرْكِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخِطَابِ بِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي الشَّهْرِ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِالصَّوْمِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=675748رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَرَفْعُ الْقَلَمِ هُوَ إِسْقَاطُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْجُنُونَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إِذَا دَامَ بِهِ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ إِذَا دَامَ بِهِ الشَّهْرَ كُلَّهُ فِي سُقُوطِ فَرْضِ الصَّوْمِ .
وَيُفَارِقُ الْإِغْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْوِلَايَةَ بِالْإِغْمَاءِ إِنْ طَالَ ، وَفَارَقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَأَشْبَهَ الْإِغْمَاءُ النَّوْمَ فِي بَابِ نَفْيِ وِلَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ خِطَابُ الْمَجْنُونِ وَالتَّكْلِيفُ زَائِلٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِالْإِغْمَاءِ . قِيلَ لَهُ : الْإِغْمَاءُ وَإِنْ مَنَعَ الْخِطَابَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِهِ فَإِنَّ لَهُ أَصْلًا آخَرَ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ جَائِزٌ سَائِغٌ .
فَوَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهِ حَالَ الْإِغْمَاءِ ؛ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَرِيضِ
[ ص: 230 ] عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ .
وَأَمَّا مَنْ أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّهْرِ ، فَإِنَّمَا أَلْزَمُوهُ الْقَضَاءَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ ؛ إِذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ ؛ إِذْ لَا يَخْلُو قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ أَوْ شُهُودَ جُزْءٍ مِنْهُ ؛ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَنَاقُضُ اللَّفْظِ بِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّهِ كُلِّهِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُضِيُّهُ شَرْطًا لِلُزُومِ صَوْمِهِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنَ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ فِعْلُ الصَّوْمِ فِيهِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعِهِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّوْمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَوَاجِبٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ إِدْرَاكُ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا صَوْمُ الْجُزْءِ الَّذِي أَدْرَكَهُ دُونَ غَيْرِهِ ؛ إِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : " فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْبَعْضَ " . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ لَكَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اسْتِغْرَاقَ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ .
فَلَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ دُونَ الْجَمِيعِ فِي شَرْطِ اللُّزُومِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ ، وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي إِيجَابِ الْجَمِيعِ ؛ إِذْ كَانَ الشَّهْرُ اسْمًا لِجَمِيعِهِ ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ : " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ " .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا أَفَاقَ ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَيَّامٌ مِنَ الشَّهْرِ ، يَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُوجِبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِ صَوْمَ الْمَاضِي مِنَ الْأَيَّامِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُنْصَرِفًا إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ قِيلَ لَهُ : إِنَّمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَا صَوْمُهَا بِعَيْنِهَا ، وَجَائِزٌ لُزُومُ الْقَضَاءِ مَعَ امْتِنَاعِ خِطَابِهِ بِالصَّوْمِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَلَمْ تَكُنِ اسْتِحَالَةُ تَكْلِيفِهِمْ فِيهَا مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ ؟ وَكَذَلِكَ نَاسِي الصَّلَاةِ وَالنَّائِمُ عَنْهَا ، فَإِنَّ الْخِطَابَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : فِعْلُهُ فِي وَقْتِ التَّكْلِيفِ ، وَالْآخَرُ : قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِفِعْلِهِ فِي حَالِ الْإِغْمَاءِ وَالنِّسْيَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ ص: 231 ]