الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى يدل على لزوم ركعتي الطواف ، وذلك لأن قوله تعالى مثابة للناس لما اقتضى فعل الطواف ثم عطف عليه قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهو أمر ظاهره الإيجاب ، دل ذلك على أن الطواف موجب للصلاة ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أراد به صلاة الطواف ؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر حجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله : استلم النبي صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت وصلى ركعتين .

فلما تلا صلى الله عليه وسلم عند إرادته الصلاة خلف المقام : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى دل ذلك على أن [ ص: 92 ] المراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف ، وظاهره أمر فهو على الوجوب ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاهما عند البيت ؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن عمر القواريري قال : حدثني يحيى بن سعيد قال : حدثنا السائب عن محمد المخزومي قال : حدثني محمد بن عبد الله بن السائب عن أبيه ، أنه كان يقود ابن عباس فيقيمه عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحجر مما يلي الباب فيقول ابن عباس : " أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي هاهنا " فيقوم فيصلي .

فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف ، ودل فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها تارة عند المقام وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب .

وروى عبد الرحمن القاري عن عمر أنه طاف بعد صلاة الصبح ، ثم ركب وأناخ بذي طوى ، فصلى ركعتي طوافه . وعن ابن عباس أنه صلاها في الحطيم ، وعن الحسن وعطاء أنه إن لم يصل خلف المقام أجزأ . .

وقد اختلف السلف في المراد بقوله تعالى مقام إبراهيم فقال ابن عباس : " الحج كله مقام إبراهيم " . وقال " عطاء : مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار " .

وقال مجاهد : " الحرم كله مقام إبراهيم " .

وقال السدي : مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت رجله أيضا فيه ، فجعلها الله من شعائره فقال : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وروي نحوه عن الحسن وقتادة والربيع بن أنس ، والأظهر أن يكون هو المراد ؛ لأن الحرم يسمى على الإطلاق مقام إبراهيم ، وكذلك سائر المواضع التي تأوله غيرهم عليها مما ذكرناه ، ويدل على أنه هو المراد ما روى حميد عن أنس قال : قال عمر : قلت يا رسول الله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ثم صلى فدل على أن مراد الله تعالى بذكر المقام هو الحجر .

ويدل عليه أمره تعالى إيانا بفعل الصلاة ، وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا سائر المواضع الذي تأوله عليها من ذكرنا قوله ، وهذا المقام دلالة على توحيد الله ونبوة إبراهيم ؛ لأنه جعل للحجر رطوبة الطين حتى دخلت قدمه فيه ، وذلك لا يقدر عليه إلا الله ؛ وهو مع ذلك معجزة لإبراهيم عليه السلام فدل على نبوته .

وقد اختلف في المعنى المراد بقوله مصلى فقال فيه مجاهد : " مدعى " وجعله من الصلاة ؛ إذ هي الدعاء لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وقال الحسن : " أراد به قبلة " .

وقال قتادة [ ص: 93 ] والسدي : " أمروا أن يصلوا عنده " . وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ ؛ لأن لفظ الصلاة إذا أطلق تعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ، ألا ترى أن مصلى المصر هو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد : المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة المفعولة ، وقد دل عليه أيضا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلاوته الآية .

وأما قول من قال " قبلة " فذلك يرجع إلى معنى الصلاة ؛ لأنه إنما يجعله المصلي بينه وبين البيت فيكون قبلة له ، وعلى أن الصلاة فيها الدعاء ، فحمله على الصلاة أولى ؛ لأنها تنتظم سائر المعاني التي تأولوا عليها الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية