قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي  قال  الكسائي  وأبو عبيدة  وأكثر أهل اللغة : الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة ، والحصر حصر العدو ، ويقال : أحصره المرض وحصره العدو . وحكي عن  الفراء  أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر ، وأنكره  أبو العباس المبرد  والزجاج  وقالا : هما مختلفان في المعنى ، ولا يقال في المرض حصره ولا في العدو أحصره . قالا : وإنما هذا كقولهم حبسه : إذا جعله في الحبس ، وأحبسه : أي عرضه للحبس ، وقتله : أوقع به القتل ، وأقتله : أي عرضه للقتل ، وقبره : دفنه في القبر ، وأقبره : عرضه للدفن في القبر ؛ وكذلك حصره : حبسه وأوقع به الحصر ، وأحصره : عرضه للحصر وروى  ابن أبي نجيح  عن  عطاء  عن  ابن عباس  قال : " لا حصر إلا حصر عدو ، فأما من حبسه الله بكسر أو مرض فليس بحصر " فأخبر  ابن عباس  أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض لا يسمى حصرا ؛ وهذا موافق لقول من ذكرنا قولهم من أهل اللغة في معنى الاسم . ومن الناس من يظن أن هذا يدل من قوله على أن المريض لا يجوز له أن يحل ولا يكون محصرا ؛ وليس في ذلك دلالة على ما ظن ؛ لأنه إنما أخبر عن معنى الاسم ولم يخبر عن معنى الحكم ، فأعلم أن اسم الإحصار يختص بالمرض والحصر يختص بالعدو . وقد اختلف السلف  في حكم المحصر  على ثلاثة أنحاء : روي عن  ابن مسعود   وابن عباس   : " العدو والمرض سواء يبعث بدم ويحل به إذا نحر في الحرم   " وهو قول  أبي حنيفة   وأبي يوسف   ومحمد   وزفر   والثوري   . 
والثاني : قول  ابن عمر   : " إن المريض لا يحل ولا يكون محصرا إلا بالعدو " وهو قول  مالك   والليث   والشافعي   . والثالث : قول  ابن الزبير   وعروة بن الزبير   : " إن المرض والعدو سواء لا يحل إلا بالطواف " ولا نعلم لهما موافقا من فقهاء الأمصار قال  أبو بكر   : ولما ثبت بما قدمته من قول أهل اللغة أن اسم الإحصار يختص بالمرض ، وقال الله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي  وجب أن يكون اللفظ مستعملا فيما هو حقيقة  [ ص: 335 ] فيه وهو المرض ، ويكون العدو داخلا فيه بالمعنى . 
فإن قيل فقد حكي عن  الفراء  أنه أجاز فيهما لفظ الإحصار . قيل له لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته في المرض ؛ لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض ، وإنما أجازه في العدو ، فلو وقع الاسم على الأمرين لكان عموما فيهما موجبا للحكم في المريض والمحصور بالعدو جميعا . 
فإن قيل : لم تختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية  ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعين بالعدو ، فأمرهم الله بهذه الآية بالإحلال من الإحرام ، فدل على أن المراد بالآية هو العدو قيل له لما كان سبب نزول الآية هو : العدو ، ثم عدل عن ذكر الحصر وهو يختص بالعدو إلى الإحصار الذي يختص بالمرض ، دل ذلك على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره ؛ ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال وحل هو ، دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ ، فكان نزول الآية مفيدا للحكم في الأمرين . ولو كان مراد الله تعالى تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظا يختص به دون غيره ؛ ومع ذلك لو كان اسما للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبا للاقتصار بحكمه عليه ، بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب . ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر  قال : حدثنا  أبو داود  قال : حدثنا  مسدد  قال : حدثنا يحيى  عن حجاج الصواف  قال : حدثني  يحيى بن أبي كثير  عن  عكرمة  قال : سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال  عكرمة   : فسألت  ابن عباس   وأبا هريرة  فقالا : صدق  . ومعنى قوله فقد حل فقد جاز له أن يحل ، كما يقال : حلت المرأة للزوج ، يعني جاز لها أن تتزوج . 
فإن قيل : روى  حماد  وابن زيد  عن أيوب  عن  عكرمة  أنه قال في المحصر يبعث بالهدي : " فإذا بلغ الهدي محله حل وعليه الحج من قابل " وقال : " لقد رضي الله سبحانه بالقصاص من عباده ويأخذ منهم العدو أن عليه حجا مكان حج وإحراما مكان إحرام  " . 
فزعم هذا القائل أنه لو كان عند  عكرمة  هذا الحديث لما كان قال : " يبعث بالهدي " ولقال : " يحل " كما روي في الخبر . وهذا القائل إنما غلط حين ظن أن المعنى في قوله : " حل " وقوع الإحلال بنفس الإحصار ؛ وليس هو كما ظن وإنما معناه أنه جاز له أن يحل كما ذكرنا مثله فيما يطلقه الناس من قولهم : " حلت المرأة للأزواج " يريدون به : قد جاز لها أن تحل بالتزويج . ويدل عليه من جهة النظر أن المحصر بالعدو  لما جاز له الإحلال لتعذر وصوله إلى البيت وكان ذلك  [ ص: 336 ] موجودا في المرض ، وجب أن يكون بمنزلته وفي حكمه . 
ألا ترى أنه متى لم يتعذر وصوله إلى البيت بمنع العدو لم يجز له أن يحل ؟ فدل ذلك على أن المعنى فيه تعذر وصوله إلى البيت . ويدل على ذلك موافقة مخالفينا إيانا على أن المرأة إذا منعها زوجها من حجة التطوع بعد الإحرام ، جاز لها الإحلال وكانت بمنزلة المحصر مع عدم العدو ؛ وكذلك من حبس في دين أو غيره فتعذر عليه الوصول إلى البيت كان في حكم المحصر ؛ فكذلك المريض . 
ويدل عليه أن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بالعدو أو المرض ، ألا ترى أن الخائف جائز له فعل الصلاة بالإيماء أو قاعدا إذا تعذر عليه فعلها قائما كما يجوز ذلك للمريض ؟ فكذلك المضي في الإحرام واجب أن لا يختلف حكمه عند تعذر الوصول إلى البيت لمرض كان ذلك أو لخوف عدو ، وكذلك هذا في استقبال القبلة إذا كان خائفا أو مريضا ، وكذلك من عدم الماء أو كان مريضا ، ومن لا يجد ما يحتمل به للجهاد ، ومن كان مريضا ؛ لم يختلف حكم الإعذار في سقوط الفرض ، كذلك ينبغي أن لا يختلف حكمها في باب سقوط فرض المضي على الإحرام وجواز الإحلال منه ، والمعنى في الجميع تعذر الفعل . 
فإن قيل : لما قال تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي  ثم عقب ذلك بقوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة  دل ذلك من وجهين على أن المريض غير مراد بذكر الإحصار ؛ لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرا مع كونه في أول الخطاب ، والوجه الآخر أنه لو كان مرادا له لكان يحل بذلك الدم ولم يكن يحتاج إلى فدية . قيل له : لما قال الله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله  منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو ذبحه في الحرم  ، فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله  ، وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية . ووجه آخر : وهو أنه ليس كل مرض يمنع الوصول إلى البيت ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال  لكعب بن عجرة   : أتؤذيك هوام رأسك ؟ قال : نعم فأنزل الله الآية ، ولم تكن هوام رأسه مانعته من الوصول إلى البيت ، فرخص الله له في الحلق وأمره بالفدية ، وكذلك المرض المذكور في الآية جائز أن يكون المرض الذي ليس معه إحصار ، والله سبحانه إنما جعل المرض إحصارا إذا منع الوصول إلى البيت ، فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارا . ووجه آخر : وهو قوله : فمن كان منكم مريضا  يجوز أن يكون عائدا  [ ص: 337 ] إلى أول الخطاب ، كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله : وأتموا الحج والعمرة لله  ثم عطف عليه قوله : فإن أحصرتم  فبين حكمهم إذا أحصروا ، ثم عقبه بقوله : فمن كان منكم مريضا  يعني : أيها المحرمون بالحج والعمرة ؛ فبين حكمهم إذا مرضوا قبل الإحصار كما بين حكمهم عند الإحصار ؛ فليس إذا في قوله : فمن كان منكم مريضا  دلالة على أن المرض لا يكون إحصارا . 
فإن قيل : لما قال في سياق الآية : فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج  دل على أن مراده العدو المخوف ؛ لأن الأمن يقتضي الخوف . قيل له : ما الذي يمنع أن يكون المراد الأمن من ضرر المرض المخوف ؟ ولم جعلته مخصوصا بالعدو دون المرض والأمن والخوف موجودان فيهما ؟ وقد روي عن  عروة بن الزبير  في قوله : فإذا أمنتم  يعني : إذا أمنت من كسرك ووجعك فعليك أن تأتي البيت  . 
فإن قيل : الفرق بين العدو والمرض أن المحصر بعدو إن لم يمكنه أن يتقدم أمكنه الرجوع ، والمرض لا يختلف حاله في التقدم والرجوع . قيل له : فهذا أحرى أن يكون محصرا لتعذر الأمرين عليه ، فهو أعذر ممن يمكنه الرجوع وإن تعذر عليه المضي للخوف . ويقال أيضا : ما تقول في المحصر بالعدو إذا كان محيطا به ولم يمكنه الرجوع ولا التقدم  أليس جائزا له الإحلال بلا خلاف بين الفقهاء فقد انتقضت علتك في الفرق بينهما ؛ ومع ذلك فقد قال  الشافعي  في المحرمة إذا منعها زوجها  والمحبوس " إنهما محصران وجائز لهما الإحلال وحال التقدم والرجوع لهما سواء ؛ لأنهما ممنوعان من الأمرين " . وزعم  الشافعي  أن الفرق بين المريض والخائف أن الله تعالى قد أباح للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن . فيقال له : وكذلك قد أباح للمريض ترك القتال رأسا بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج  فكانت رخصة المريض أوسع من رخصة الخائف ؛ لأن الخائف غير معذور في ترك حضور القتال والمريض معذور فيه . وإنما عذر الخائف أن يتحيز إلى فئة ولم يعذر في ترك القتال رأسا ، فالمريض أولى بالعذر في الإحلال من إحرامه . 
قال  الشافعي   : فلما قال الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله  ثم قال في شأن المحصر الخائف ما قال ، وجب أن لا يزول فرض تمام الحج والعمرة إلا عن الخائف . فيقال له : الذي قال : وأتموا الحج والعمرة لله  هو الذي قال : فإن أحصرتم  وهو عموم في الخائف وغيره ، فلا يخرج شيء منه إلا بدلالة ، فما الدلالة على تخصيصه بالخائف دون غيره ؟ وقد  [ ص: 338 ] نقضت ذلك بإطلاقك للمرأة الإحلال إذا منعها زوجها وليست بخائفة ، وكذلك المحبوس لا يخاف القتل ، وقال المزني   : جعل الإحلال رخصة للخائف من العدو ولا يشبه به غيره ، كما جعل المسح على الخفين خاصا لا يشبه به القفازين . فيقال له : إن كان المعنى فيه أنه رخصة فينبغي أن لا يقاس على شيء من الرخص ، فإذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم الاستنجاء بالأحجار وجب أن لا يشبه به غيره في جواز الاستنجاء بالخرق والخشب ، ولما كان حلق الرأس من أذى رخصة وجب أن لا يشبه به الأذى في البدن في إباحة الحلق والفدية ، ويلزمه أن لا يشبه بالخائف المحبوس والمرأة إذا منعها زوجها ؛ وجميع ما ذكرنا ينقض اعتلاله 
				
						
						
