باب في نسخ القرآن بالسنة وذكر وجوه النسخ قال الله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها قال قائلون : " النسخ هو الإزالة " وقال آخرون : " هو الإبدال " قال الله تعالى : فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله ويبطله ويبدل مكانه آيات محكمات . وقيل : هو النقل ، من قوله : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
وهذا الاختلاف إنما هو في موضوعه في أصل اللغة ، ومهما كان في أصل اللغة معناه فإنه في إطلاق الشرع إنما هو بيان مدة الحكم والتلاوة ، والنسخ قد يكون في التلاوة مع بقاء الحكم ويكون في الحكم مع بقاء التلاوة دون غيره قال : زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نسخ في شريعة نبينا أبو بكر محمد صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب ؛ قال : لأن نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة .
وقد كان هذا الرجل ذا حظ من البلاغة وكثير من علم اللغة ، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله ، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره ؛ ولكنه بعد من التوفيق بإظهار هذه المقالة ؛ إذ لم يسبقه إليها أحد ، بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ونقل ذلك إلينا نقلا لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل كما قد عقلت أن في القرآن عاما وخاصا ومحكما ومتشابها ، فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصه وعامه ومحكمه ومتشابهه ؛ إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أمورا خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف المعاني واستكراهها وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك .
وأكثر ظني فيه أنه إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف [ ص: 73 ] فيه ونقلته الأمة وكان ممن روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم : والله يغفر لنا وله وقد تكلمنا في أصول الفقه في وجوه النسخ وما يجوز فيه وما لا يجوز بما يغني ويكفي ، وأما : من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أو ننسها قيل إنه من النسيان ، و " ننسأها " من التأخير ، يقال : نسأت الشيء : أخرته ، والنسيئة : الدين المتأخر . ومنه قوله تعالى : إنما النسيء زيادة في الكفر يعني تأخير الشهور ، فإذا أريد به النسيان ، فإنما هو أن ينسيهم الله تعالى التلاوة حتى لا يقرءوا ذلك ، ويكون على أحد وجهين : إما أن يؤمروا بترك تلاوته فينسوه على الأيام ، وجائز أن ينسوه دفعة ويرفع من أوهامهم ، ويكون ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم .
وأما معنى قراءة " أو ننسأها " فإنما هو بأن يؤخرها فلا ينزلها وينزل بدلا منها ما يقوم مقامها في المصلحة أو يكون أصلح للعباد منها ، ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتي فيأتي بدلا منها لو أنزلها في الوقت المتقدم فيقوم مقامها في المصلحة .
وأما قوله : نأت بخير منها أو مثلها فإنه روي عن ابن عباس : " بخير منها " لكم في التسهيل والتيسير " كالأمر بأن لا يولي واحد من عشرة في القتال ثم قال : وقتادة الآن خفف الله عنكم أو مثلها كالأمر بالتوجه إلى الكعبة بعدما كان إلى بيت المقدس وروي عن : " بخير منها في الوقت في كثرة الصلاح أو مثلها " . فحصل من اتفاق الجميع أن المراد " خير لكم إما في التخفيف أو في المصلحة " ولم يقل أحد منهم : خير منها في التلاوة ؛ إذ غير جائز أن يقال إن بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم ؛ إذ جميعه معجز كلام الله قال الحسن : وقد احتج بعض الناس في امتناع جواز أبو بكر ؛ لأن السنة على أي حال كانت لا تكون خيرا من القرآن وهذا إغفال من قائله من وجوه : نسخ القرآن بالسنة
أحدها : أنه غير جائز أن يكون المراد : " بخير منها في التلاوة والنظم " ؛ لاستواء الناسخ والمنسوخ في إعجاز النظم والآخر اتفاق السلف على أنه لم يرد النظم ؛ لأن قولهم فيه على أحد المعنيين إما التخفيف أو المصلحة .
وذلك قد يكون بالسنة كما يكون بالقرآن ولم يقل أحد منهم إنه أراد التلاوة ، فدلالة هذه الآية على جواز نسخ القرآن بالسنة أظهر من دلالتها على امتناع جوازه بها وأيضا فإن حقيقة ذلك إنما تقتضي نسخ التلاوة ، وليس للحكم في الآية ذكر ؛ لأنه قال تعالى : ما ننسخ من آية والآية إنما هي اسم للتلاوة ، وليس في نسخ التلاوة ما يوجب نسخ الحكم ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون معناه : " ما ننسخ من تلاوة آية أو ننسها نأت بخير منها لكم من محكم من طريق السنة أو غيرها " . وقد [ ص: 74 ] استقصينا القول في هذه المسألة في أصول الفقه بما فيه كفاية ، فمن أرادها فليطلبها هناك إن شاء الله تعالى .