وقوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين روى عن معمر قال : هو قتادة بختنصر ، خرب بيت المقدس وأعان على ذلك النصارى .
وقوله تعالى : [ ص: 75 ] أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين قال : هم النصارى لا يدخلونها إلا مسارقة ، فإن قدر عليهم عوقبوا لهم في الدنيا خزي ، قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وروى عن ابن أبي نجيح في هذه الآية قال : هم مجاهد النصارى خربوا بيت المقدس .
قال : ما روي في خبر أبو بكر يشبه أن يكون غلطا من راويه ؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الأولين أن عهد قتادة بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل ، والنصارى إنما كانوا بعد المسيح وإليه ينتمون ، فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس ، والنصارى إنما استفاض دينهم في الشام والروم في أيام قسطنطين الملك وكان قبل الإسلام بمائتي سنة وكسور ؟ وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أوثان وكان من ينتحل النصرانية منهم مغمورين مستخفين بأديانهم فيما بينهم .
ومع ذلك فإن النصارى تعتقد من تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود فكيف أعانوا على تخريبه مع اعتقادهم فيه ؟ ومن الناس من يقول : إن الآية إنما هي في شأن المشركين حيث منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام ، وإن سعيهم في خرابه إنما هو منعهم من عمارته بذكر الله وطاعته قال : في هذه الآية دلالة على أبو بكر أهل الذمة دخول المساجد من وجهين : منع
أحدهما : قوله : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والمنع يكون من وجهين :
أحدهما : بالقهر والغلبة ، والآخر : الاعتقاد والديانة والحكم ؛ لأن من اعتقد من جهة الديانة المنع من ذكر الله في المساجد فجائز أن يقال فيه قد منع مسجدا أن يذكر فيه اسمه ، فيكون المنع هاهنا معناه الحظر ، كما جائز أن يقال منع الله الكافرين من الكفر والعصاة من المعاصي بأن حظرها عليهم وأوعدهم على فعلها ؛ فلما كان اللفظ منتظما للأمرين وجب استعماله على الاحتمالين . وقوله : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين يدل على أن على المسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها ، والوجه الثاني : قوله وسعى في خرابها وذلك يكون أيضا من وجهين :
أحدهما : أن يخربها بيده ، والثاني : اعتقاده وجوب تخريبها ؛ لأن دياناتهم تقتضي ذلك وتوجبه ثم عطف عليه قوله : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين وذلك يدل على منعهم منها على ما بينا ، ويدل على مثل دلالة هذه الآية قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله وعمارتها تكون من وجهين :
أحدهما : بناؤها وإصلاحها ، والثاني : حضورها ولزومها ، كما تقول : فلان يعمر مجلس [ ص: 76 ] فلان ؛ يعني يحضره ويلزمه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ، وذلك لقوله عز وجل إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله فجعل حضوره المساجد عمارة لها وأصحابنا يجيزون لهم دخول المساجد ، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ومما يدل على أنه عام في سائر المساجد وأنه غير مقصور على بيت المقدس خاصة أو المسجد الحرام خاصة ، إطلاقه ذلك في المساجد فلا يخص شيء منه إلا بدلالة .
فإن قيل جائز أن يقال لكل موضع من المسجد مسجد كما يقال لكل موضع من المجلس مجلس ، فيكون الاسم واقعا على جملته تارة وعلى كل موضع سجود فيه أخرى ؟ قيل له : لا تنازع بين أهل اللسان أنه لا يقال للمسجد الواحد مساجد كما لا يقال إنه مسجدان ، وكما لا يقال للدار الواحدة إنها دور ؛ فثبت أن الإطلاق لا يتناوله وإن سمي موضع السجود مسجدا ، وإنما يقال ذلك مقيدا غير مطلق وحكم الإطلاق فيما يقتضيه ما وصفنا ، وعلى أنك لا تمتنع من إطلاق ذلك في جميع المساجد وإنما تريد تخصيصه ببعضها دون بعض وذلك غير مسلم لك بغير دلالة .