وقوله تعالى : يكتمون ما أنزل الله من الكتاب يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص أو الدليل ؛ لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها . وكذلك قوله تعالى : لتبيننه للناس ولا تكتمونه [ ص: 124 ] عام في الجميع . وكذلك ما علم من طرق إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطوت تحت الآية ؛ لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية .
ولذلك قال : " لولا آية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكم " ثم تلا : أبو هريرة إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى فأخبر أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى الذي أنزله الله تعالى وقال عن شعبة في قوله تعالى : قتادة وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب الآية : " فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم علما فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم فإن كتمانه هلكة " .
ونظيره في بيان العلم وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد روى حجاج ، عن ، عن عطاء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار
فإن قيل : روي عن أن الآية نزلت في شأن ابن عباس اليهود حين كتموا ما في كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : نزول الآية على سبب غير مانع من اعتبار عمومها في سائر ما انتظمته ؛ لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب ، إلا أن تقوم الدلالة عندنا على وجوب الاقتصار به على سببه .
ويحتج بهذه الآيات في ؛ وذلك لأن قوله تعالى : قبول الأخبار المقصرة عن مرتبة إيجاب العلم العام لمخبرها في أمور الدين إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وقوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب قد اقتضى النهي عن الكتمان ووقع البيان بالإظهار ، فلو لم يلزم السامعين قبوله لما كان المخبر عنه مبينا لحكم الله تعالى ؛ إذ ما لا يوجب حكما فغير محكوم له بالبيان ، فثبت بذلك أن المنهيين عن الكتمان متى أظهروا ما كتموا وأخبروا به لزم العمل بمقتضى خبرهم وموجبه .
ويدل عليه قوله في سياق الخطاب : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع العلم بخبرهم فإن قال قائل : لا دلالة فيه على لزوم العمل به ، وجائز أن يكون كل واحد منهم كان منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر الخبر قيل له : هذا غلط ؛ لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على التقول فلا يكون خبرهم موجبا للعلم فقد دلت الآثار على قبول الخبر المقصر عن المنزلة الموجبة للعلم بمخبره ، وعلى أن [ ص: 125 ] ما ادعيته لا برهان عليه ، فظواهر الآي مقتضية لقبول ما أمروا به لوقوع بيان حكم الله تعالى به .
وفي الآية حكم آخر ، وهو أنها من حيث دلت على لزوم فهي دالة على امتناع جواز إظهار العلم وترك كتمانه ؛ إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ، ألا ترى أنه لا يصح استحقاق الأجر على الإسلام ؟ وقد روي أخذ الأجرة عليه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أعطيت قومي مائة شاة على أن يسلموا ، فقال صلى الله عليه وسلم : المائة شاة رد عليك ، وإن تركوا الإسلام قاتلناهم .
ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعا ؛ لأن قوله تعالى : ويشترون به ثمنا قليلا مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه ؛ إذ كان الثمن في اللغة هو البدل ، قال عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين