باب في قال مقدار ما يأكل المضطر أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر فيما رواه عنه والشافعي المزني : " لا يأكل المضطر من الميتة إلا مقدار ما يمسك به رمقه " وروى عن ابن وهب أنه قال : " يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها ، فإن وجد عنها غنى طرحها " . وقال مالك عبد الله بن الحسن العنبري : " يأكل منها ما يسد به جوعه " قال : قال الله تعالى : أبو بكر إلا ما اضطررتم إليه وقال : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فعلق الإباحة بوجود الضرورة ، والضرورة هي خوف الضرر بترك الأكل إما على نفسه أو على عضو من أعضائه ، فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة ، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة ؛ لأن الجوع في الابتداء لا يبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه .
وأيضا قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فقد بينا أن المراد منه : غير باغ ولا عاد في الأكل ، ومعلوم أنه لم يرد الأكل منها فوق الشبع ؛ لأن ذلك محظور في الميتة وغيرها من المباحات ، فوجب أن يكون المراد : غير باغ في الأكل منها مقدار الشبع ، فيكون البغي والتعدي واقعين في أكله منها مقدار [ ص: 161 ] الشبع حتى يكون لاختصاصه الميتة بهذا الوصف وعقده الإباحة بهذه الشريطة فائدة ، وهو أن لا يتناول منها إلا مقدار زوال خوف الضرورة .
ويدل على ذلك أيضا أنه لم يجز له أن يتناول الميتة . ثم إذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة . وكذلك إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر حرم عليه أكلها ؛ إذ ليس أكل الميتة بأولى بإباحة الأكل بعد زوال الضرورة من الطعام الذي هو مباح في الأصل . لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه
وقد روى عن الأوزاعي حسان بن عطية الميثي فلم يبح لهم الميتة إلا إذا لم يجدوا صبوحا وهو شرب الغداء أو غبوقا وهو شرب العشاء أو يجدوا بقلا يأكلونه ؛ لأن من وجد غداء أو عشاء أو بقلا فليس بمضطر . وهذا يدل على معنيين : ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نكون بالأرض تصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ قال : متى ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تجدوا بها بقلا فشأنكم بها
أحدهما : أن الضرورة هي المبيحة للميتة دون حال المضطر في كونه مطيعا أو عاصيا ؛ إذ لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم للسائل بين حال المطيع والعاصي في إباحته بل سوى بينهما . والثاني : أن إباحة الميتة مقصورة على حال خوف الضرر ، والله أعلم .