ولما كان هذا ينبغي أن يكون سببا للتصديق الذي هو سبب الرحمة بين أنه إنما سبب لهم العذاب ، وله ولمن تبعه النجاة ، فبدأ بالمؤمنين اهتماما بشأنهم بقوله : فأنجيناه أي : بما لنا من العظمة إنجاء وحيا سريعا سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين والذين معه أي : في الطاعة ، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله : برحمة أي : بإكرام وحياطة منا أي : لا بعمل ولا غيره .
ولما قدم الإنجاء اهتماما به ، أتبعه حالهم فقال معلما بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب ، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع وقطعنا دابرهم أي : آخرهم ، هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر تصريحا بالمقصود وبيانا لعلة أخذهم ، فقال : دابر أي : آخر ، أي : استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود - عليه السلام - الذين كذبوا بآياتنا أي : ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة [ ص: 443 ] إلينا وقوله : وما كانوا أي : خلقا وجبلة مؤمنين عطف على صلة " الذين " وهي : كذبوا بآياتنا وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم ، مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقوله : إنهم كانوا قوما عمين تعليلا لإغراقهم ، أي : أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك ، لأنهم غير قابلين للإيمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد ، فالمعنى : وما كان الإيمان من صفتهم ، أي : ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي ، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن ، ويزيده حسنا أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين; ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقا بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم ؛ لأن وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين ، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل ، وأيضا فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم ، فقال - سبحانه - ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم ، وأنهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب ، ويحتمل أن تكون الجملة حالا ، والمعنى على كل تقدير : قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم . الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى