ولما قدم سبحانه وتعالى أن ومثله بالرياء وضرب لهما مثلا ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليهما دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلا أوضح من السالف وأشد في التنفير عنهما والبعد منهما فقال، وقال المن مبطل للصدقة ولما تراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها فضرب لمن ينفق مقابلا لمن يبتغي مرضاة الله تعالى مثلا بالجنة المخلفة، انتهى. فقال، منكرا على من يبطل عمله كأهل مثل الصفوان بعد كشف الحال بضرب هذه الأمثال: الحرالي: أيود أحدكم أي يحب حبا شديدا [ ص: 86 ] أن تكون له جنة أي حديقة تستر داخلها وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال: من نخيل جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه الشجر بالآدمي، ثابت ورقها، مغذ مؤدم ثمرها، في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمي بخلاف سائر الشجر، مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله وأعناب جمع عنب وهو شجر متكرم لا يختص ذهابه بجهة العلو اختصاص النخلة بل يتفرع علوا وسفلا ويمنة ويسرة، مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة، قاله الحرالي.
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدومها إلا بالماء قال: تجري من تحتها الأنهار أي لكرم أرضها. وقال وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل فإن الجائحة في السقي أشد على المالك منها في البعل لقلة الكلفة في البعل ولشدة الكلف في السقي. انتهى. الحرالي:
ولما وصفها بكثرة الماء ذكر نتيجة ذلك فقال: له فيها من كل الثمرات أي مع النخل والعنب. ولما ذكر كرمها ذكر شدة [ ص: 87 ] الحاجة إليها فقال: وأصابه أي والحال أنه أصابه الكبر فصار لا يقدر على اكتساب وله ذرية ضعفاء بالصغر كما ضعف هو بالكبر فأصابها أي الجنة مرة من المرات إعصار أي ريح شديدة جدا. قال صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه من العصر وهو [الشدة المخرجة لخبء الأشياء، والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير، وهو] أحد قسمي النار، نظيره من السعير السموم. وقال الأصفهاني: ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود الحرالي: فيه نار فاحترقت تلك الجنة وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال. قال من الاحتراق وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهابا وحيا بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه; فجعل المثل الأول في الحب أي الذي على الصفوان لآفة من تحته. وجعل المثل في الجنة بجائحة من فوقه كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع. انتهى. فحال من راءى في أعماله أو آذى في صدقة ماله في يوم القيامة وأهواله كحال هذا في نفسه وعياله عند خيبة [ ص: 88 ] آماله، وروى الحرالي: رضي الله تعالى عنه في التفسير عن البخاري [قال قال عبيد بن عمير ] رضي الله تعالى عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "فيم ترون هذه الآية نزلت عمر أيود أحدكم إلى أن قال: قال رضي الله تعالى عنه: ضربت مثلا لعمل، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أي عمل؟ قال عمر : لعمل، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: لرجل غني يعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله" . عمر
ولما بين لهم هذا البيان الذي أبهت بلغاء الإنس والجان نبههم على تعظيمه لتبجيله وتكريمه بقوله مستأنفا: كذلك أي مثل هذا البيان يبين الله أي الذي له الكمال كله لكم الآيات أي كلها لعلكم تتفكرون أي ليكون حالكم حال من يرجى أن يحمل نفسه على الفكر، ومن يكون كذلك ينتفع بفكره. وقال فتبنون الأمور على تثبيت، لا خير في عبادة إلا بتفكر، كما أن الباني لا بد أن يفكر في بنائه، كما قال الحكيم: أول الفكرة آخر العمل وأول العمل آخر الفكرة، كذلك من حق أعمال الدين ألا تقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة وأواخرها اللاحقة، فكانوا في ذلك صنفين بما يشعر به " لعلكم " مطابقين للمثل متفكرا مضاعفا [ ص: 89 ] حرثه وجنته وعاملا بغير فكرة تستهويه أهواء نفسه فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه. انتهى. الحرالي: