قوله: "والمقيمين" قراءة الجمهور بالياء، وقرأ جماعة كثيرة: "والمقيمون" بالواو، منهم ابن جبير، في رواية وأبو عمرو بن العلاء يونس، وهارون عنه، ومالك بن دينار، وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها أقوال النحاة، وفيها ستة أقوال، أظهرهما: - وعزاه وعيسى بن عمر، مكي لسيبويه، للبصريين - أنه منصوب على القطع، يعني: المفيد للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطع مفيد لبيان فضل الصلاة، فكثر الكلام في الوصف بأن جعل في جملة أخرى، وكذلك القطع في قوله: وأبو البقاء "والمؤتون الزكاة" على ما سيأتي هو لبيان فضلها أيضا، لكن على هذا الوجه يجب أن يكون الخبر قوله: "يؤمنون"، ولا يجوز أن يكون قوله: "أولئك سنؤتيهم"؛ لأن القطع إنما يكون بعد تمام الكلام. قال مكي: ومن جعل نصب "المقيمين" على المدح، جعل خبر "الراسخين": "يؤمنون"، فإن جعل الخبر "أولئك سنؤتيهم"، لم يجز نصب "المقيمين" على المدح؛ لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال الشيخ: ومن جعل الخبر "أولئك سنؤتيهم"، فقوله ضعيف. قلت: هذا غير لازم؛ لأن هذا القائل لا يجعل نصب "المقيمين" حينئذ منصوبا على القطع، لكنه ضعيف بالنسبة إلى أنه ارتكب وجها ضعيفا في تخريج "المقيمين" كما [ ص: 154 ] سيأتي. وحكى عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف، والقطع لا يكون في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدل الناس بقول ابن عطية الخرنق:
1674 - لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وافة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
على جواز القطع فرق هذا القائل بأن البيت لا عطف فيه؛ لأنها قطعت "النازين" فنصبته، و "الطيبون" فرفعته عن قولها "قومي"، وهذا الفرق لا أثر له؛ لأنه في غير هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه:
1675 - ويأوي إلى نسوة عطل وشعثا مراضيع مثل السعالي
فنصب "شعثا" وهو معطوف.
الثاني: أن يكون معطوفا على الضمير في "منهم"؛ أي: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفا على الكاف في "إليك"؛ أي: يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة وهم الأنبياء. الرابع: أن يكون معطوفا على "ما" في "بما أنزل"؛ أي: يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبالمقيمين، ويعزى هذا واختلفت [ ص: 155 ] عبارة هؤلاء في "المقيمين" فقيل: هم الملائكة. قال الكسائي. ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إقامة الصلاة، كقوله: مكي: يسبحون الليل والنهار لا يفترون . وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حذف مضاف؛ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكون معطوفا على الكاف في "قبلك"؛ أي: ومن قبل المقيمين، ويعني بهم الأنبياء أيضا. السادس: أن يكون معطوفا على نفس الظرف، ويكون على حذف مضاف؛ أي: ومن قبل المقيمين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فهذا نهاية القول في تخريج هذه القراءة.
وقد زعم قوم لا اعتبار بهم أنها لحن، ونقلوا عن عائشة أنها خطأ من جهة غلط كاتب المصحف، قالوا: وأيضا فهي في مصحف وأبان بن عثمان بالواو فقط، نقله ابن مسعود وفي مصحف الفراء ، كذلك، وهذا لا يصح عن أبي ولا عائشة أبان، وما أحسن قول رحمه الله: ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب الكتاب، ومن لم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة عن الإسلام، وذب المطاعن عنه من أن يقولوا ثلمة في كتاب الله، ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وأما قراءة الرفع فواضحة. الزمخشري
قوله: "والمؤتون" فيه سبعة أوجه أيضا، أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدح المذكور في النصب. الثاني: أنه معطوف على "الراسخون"، [ ص: 156 ] وفي هذا ضعف؛ لأنه إذا قطع التابع عن متبوعه، لم يجز أن يعود ما بعده إلى إعراب المتبوع، فلا يقال: مررت بزيد العاقل الفاضل، بنصب "العاقل" وجر "الفاضل"، فكذلك هذا. الثالث: أنه عطف على الضمير المستكن في "الراسخون"، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه معطوف على الضمير في "المؤمنون". الخامس: أنه معطوف على الضمير في "يؤمنون". السادس: أنه معطوف على "المؤمنون". السابع: أنه مبتدأ وخبره "أولئك سنؤتيهم"، فيكون "أولئك" مبتدأ، و "سنؤتيهم" خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز في "أولئك" أن ينتصب بفعل محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الاشتغال، إلا أن هذا الوجه مرجوح من جهة أن "زيد ضربته" بالرفع أجود من نصبه؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأن لنا خلافا في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو "سأضرب زيدا"، منع بعضهم "زيدا سأضرب"، وشرط الاشتغال جواز تسلط العامل على ما قبله، فالأولى أن نحمله على ما لا خلاف فيه. وقرأ "سيؤتيهم" بالياء مراعاة للظاهر في قوله: حمزة: "والمؤمنون بالله"، والباقون بالنون على الالتفات تعظيما، ولمناسبة قوله: "وأعتدنا"، وهما واضحتان.