1692 - وسباع الطير تغدو بطانا تتخطاهم فما تستقل
قوله: إلا ما ذكيتم فيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والقائلون بأنه استثناء متصل اختلفوا؛ فمنهم من قال: هو مستثنى من قوله: "والمنخنقة" إلى قوله: "وما أكل السبع". وقال والاستثناء راجع إلى المتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، وليس إخراجه المنخنقة منه بجيد. ومنهم من قال: هو مستثنى من "ما أكل السبع" خاصة. والقول الثاني: أنه منقطع؛ أي: ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال، أو فكلوه، وكأن هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت، أو إلى حالة قريبة منه، فلم تفد تذكيتها عنده شيئا. والتذكية: الذبح، وذكت النار: ارتفعت، وذكى الرجل: أسن، قال: أبو البقاء:
1693 - على أعراقه تجري المذاكي وليس على تقلبه وجهده
قوله: وما ذبح على النصب رفع أيضا عطفا على "الميتة". واختلفوا في النصب، فقيل: هي حجارة كانوا يذبحون عليها، فـ "على" هنا واضحة، وقيل: هي للأصنام؛ لأنها تنصب لتعبد، فعلى هذا في "على" وجهان، أحدهما: أنها بمعنى اللام؛ أي: وما ذبح لأجل الأصنام. والثاني: هي على [ ص: 197 ] بابها، ولكنها في محل نصب على الحال؛ أي: وما ذبح مسمى على الأصنام، كذا ذكره وفيه النظر المعروف، وهو كونه قدر المتعلق شيئا خاصا. والجمهور على "النصب" بضمتين، فقيل: هو جمع "نصاب"، وقيل: هو مفرد، ويدل له قول أبو البقاء، الأعشى:
1694 - وذا النصب المنصوب لا تقربنه ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
وفيه احتمال. وقرأ بضم النون وإسكان الصاد، وهي تخفيف القراءة الأولى. وقرأ طلحة بن مصرف "النصب" بفتحتين، قال عيسى بن عمر: وهو اسم بمعنى المنصوب، كالقبض والنقص بمعنى: المقبوض والمنقوص، أبو البقاء: "النصب" بفتح النون وسكون الصاد، وهو مصدر واقع موقع المفعول به، ولا يجوز أن تكون تخفيفا لقراءة والحسن: لأن الفتحة لا تخفف. عيسى بن عمر؛
قوله: وأن تستقسموا بالأزلام "أن" وما في حيزها في محل رفع عطفا على "الميتة". و "الأزلام": القداح، واحدها: زلم، و "زلم" بفتح الزاي وضمها. والقداح: سهام كانت العرب تطلب بها معرفة ما قسم لها من خير وشر، مكتوب على أحدها: : أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، والآخر غفل. وقيل: هي سهام الميسر؛ أي: القمار، ووجه ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت ترفع عند البيت معها. [ ص: 198 ]
قوله: "ذلكم فسق" مبتدأ وخبر، واسم الإشارة راجع إلى الاستقسام بالأزلام خاصة، وهو مروي عن وقيل: إلى جميع ما تقدم؛ لأن معناه: حرم عليكم تناول الميتة وكذا، فرجع اسم الإشارة إلى هذا المقدر. ابن عباس.
قوله: اليوم يئس الذين كفروا "اليوم" ظرف منصوب بـ "يئس"، والألف واللام فيه للعهد، قيل: أراد به يوم عرفة، وهو يوم الجمعة عام حجة الوداع، نزلت هذه الآية فيه بعد العصر. وقيل: هو يوم دخوله عليه السلام مكة سنة تسع، وقيل: ثمان. وقال - وتبعه الزجاج -: إنها ليست للعهد، ولم يرد باليوم معينا، وإنما أراد به الزمان الحاضر، وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب، لا تريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم الزمن الحاضر فقط، ونحوه: "الآن" في قول الشاعر: الزمخشري
1695 - الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جذم
ومثله أيضا قول زهير:
1696 - وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
لم يرد بهذه حقائقها. والجمهور على "يئس" بالهمز، وقرأ "ييس" بياءين من غير همزة، ورويت أيضا عن يزيد [ ص: 199 ] ابن القعقاع: يقال: يئس ييئس وييئس، بفتح عين المضارع وكسرها، وهو شاذ، ويقال: "أيس" أيضا مقلوب من "يئس"، فوزنه عفل، ويدل على القلب كونه لم يعل، إذ لو لم يقدر ذلك للزم إلغاء المقتضي، وهو تحرك حرف العلة وانفتاح ما قبله، لكنه لما كان في معنى ما لم يعل صح. واليأس: انقطاع الرجاء، وهو ضد الطمع. و أبي عمرو، "من دينكم" متعلق بـ "يئس"، ومعناها ابتداء الغاية، وهو على حذف مضاف؛ أي: من إبطال أمر دينكم. والكلام في قوله: "اليوم أكملت"، كالكلام على "اليوم" قبله. و "عليكم" متعلق بـ "أتممت"، ولا يجوز تعلقه بـ "نعمتي" وإن كان فعلها يتعدى بـ "على"، نحو: أنعم الله عليه وأنعمت عليه ؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، إلا أن ينوب منابه. قال فإن جعلته على التبيين؛ أي: أتممت، أعني: عليكم جاز. ولا حاجة إلى ما ادعاه. أبو البقاء:
قوله: ورضيت لكم الإسلام دينا في "رضي" وجهان، أحدهما: أنه متعد لواحد وهو الإسلام. و "دينا" على هذا حال. وقيل: هو مضمن معنى صير وجعل، فيتعدى لاثنين أولهما "الإسلام"، والثاني: "دينا". و "لكم" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "رضي"، والثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من “الإسلام"، ولكنه قدم عليه. قوله: "فمن اضطر" قد تقدم الكلام على هذه الآية، وما قرئ فيها في البقرة، فأغنى عن إعادته.
و "في مخمصة" متعلق بـ "اضطر"، والمخمصة: المجاعة؛ لأنها تخمص لها البطون؛ أي: تضمر، وهي صفة محمودة في النساء، يقال: رجل خمصان، [ ص: 200 ] وامرأة خمصانة، ومنه: أخمص القدم لدقتها، ويستعمل في الجوع والغرث، قال:
1697 - تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
1698 - كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص