فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني [ ص: 226 ] مباركا أين ما كنت ?وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله " قال في رواية ابن عباس أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها . وقال في رواية انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتهم حملت الضحاك: عيسى فتلقتهم به، فذلك قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله " .
فإن قيل: " أتت به " يغني عن " تحمله " ، فلا فائدة للتكرير .
فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهم السامع " فأتت به " أن يكون ساعيا على قدميه، فيكون سعيه آية كنطقه، فقطع ذلك التوهم، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مثل قول العرب: نظرت إلى فلان بعيني، فنفوا بذلك نظر العطف والرحمة، وأثبتوا [ أنه ] نظر عين . وقال لما دخلت على قومها بكوا، وكانوا قوما صالحين، و " ابن السائب: قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: شيئا عظيما، قاله ابن عباس، ومجاهد، قال وقتادة . الفري: العظيم، الفراء: والعرب تقول: تركته يفري الفري: إذا عمل فأجاد العمل، ففضل الناس قيل هذا فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عمر " . فما رأيت عبقريا يفري فري
والثاني: عجبا فائقا، قاله أبو عبيدة .
والثالث: شيئا مصنوعا، ومنه يقال: فريت الكذب وافتريته، قاله [ ص: 227 ] اليزيدي .
قوله تعالى: " يا أخت هارون " في المراد بهارون هذا خمسة أقوال:
أحدها: أنه أخ لها من أمها، وكان من أمثل فتى في بني إسرائيل، قاله عن أبو صالح وقال ابن عباس . كان من أبيها وأمها . الضحاك:
والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله عن الضحاك وقال ابن عباس . كانت من السدي: بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنسبت إليه لأنها من ولده .
والثالث: أنه رجل صالح كان في بني إسرائيل، فشبهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن أيضا ابن عباس ويدل عليه ما وقتادة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل المغيرة بن شعبة، نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: " يا أخت هارون " ، وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى ؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " . روى
والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فساق وزناة، فنسبوها إليهم، قاله سعيد بن جبير .
والخامس: أنه رجل من فساق بني إسرائيل شبهوها به، قاله [ ص: 228 ] وهب بن منبه .
فعلى هذا يخرج في معنى ( الأخت ) قولان:
أحدهما: أنها الأخت حقيقة . والثاني: المشابهة لا المناسبة، كقوله تعالى: وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها [ الزخرف: 48 ] .
قوله تعالى: " ما كان أبوك " يعنون: عمران، " امرأ سوء " ; أي: زانيا، " وما كانت أمك " حنة، " بغيا " ; أي: زانية، فمن أين لك هذا الولد ؟
قوله تعالى: " فأشارت " ; أي: أومأت، " إليه " ; أي: إلى عيسى فتكلم . وقيل: المعنى: أشارت إليه أن كلموه، وكان عيسى قد كلمها حين أتت قومها، وقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلموه تعجبوا من ذلك، و " قالوا كيف نكلم من كان " وفيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد ؟
والثاني: أنها في معنى وقع وحدث .
والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه ؟ حكاها واختار الأخير منها . قال الزجاج، وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي ; أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء . ابن الأنباري:
والرابع: أن " كان " بمعنى صار، قاله قطرب .
وفي المراد بالمهد قولان: أحدهما: حجرها، قاله نوف، وقتادة، والثاني: سرير الصبي المعروف، حكاه والكلبي . أيضا . الكلبي
قال فلما سمع السدي: عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، فقال: إني عبد الله . قال المفسرون: إنما قدم ذكر العبودية ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية . [ ص: 229 ]
وفي قوله: " آتاني الكتاب " أسكن هذه الياء وفي معنى الآية قولان: حمزة .
أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه، قاله عن أبو صالح وقيل: علم التوراة والإنجيل وهو في بطن أمه . ابن عباس .
والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة .
وفي " الكتاب " قولان: أحدهما: أنه التوراة . والثاني: الإنجيل .
قوله تعالى: " وجعلني نبيا " هذا وما بعده إخبار عما قضى الله له، وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون . وقيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا إذا بلغت، فحل الماضي محل المستقبل، كقوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى [ المائدة: 116 ] .
وفي وقت تكليمه لهم قولان:
أحدهما: أنه كلمهم بعد أربعين يوما . والثاني: في يومه . وهو مبني على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم .
قوله تعالى: " وجعلني مباركا أين ما كنت " روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، قال: " نفاعا حيثما توجهت " . وقال معلما للخير . مجاهد:
وفي المراد بـ " الزكاة " قولان:
أحدهما: زكاة الأموال، قاله والثاني: الطهارة، قاله ابن السائب . [ ص: 230 ] الزجاج .
قوله تعالى: " وبرا بوالدتي " قال لما قال هذا، ولم يقل: ( بوالدي ) علموا أنه ولد من غير بشر . ابن عباس:
قوله تعالى: " ولم يجعلني جبارا " ; أي: متعظما، " شقيا " عاصيا لربه، " والسلام علي يوم ولدت " قال المفسرون: السلامة علي من الله يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان . وقد سبق تفسير الآية [ مريم: 15 ] .
فإن قيل: لم ذكر هاهنا " السلام " بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام ؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لما جرى ذكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يرد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج .
وقد اعترض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأول وهو قول الله عز وجل ؟
وقد أجاب عنه فقال: ابن الأنباري، عيسى إنما يتعلم من ربه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرف السلام الثاني ; لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصد به إتباع اللفظ المحكي ; لأن المتكلم له أن يغير بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رجل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنت رجل منصف .
والجواب الثاني: أن سلاما والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري .