قال علي بن أبي طلحة عن في هذه الآية: ابن عباس فلا تظلموا فيهن [ ص: 516 ] أنفسكم في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم .
وقال في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل، ولكن الله تعالى يعظم من أمره، ما يشاء ربنا تعالى . قتادة
وقد روي في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان، ولكن إسنادهما لا يصح .
* * *
خرجا في "الصحيحين " من حديث أبي بكرة وذكر الحديث . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع، فقال في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان "
قال الله عز وجل: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السماوات والأرض وخلق الليل والنهار يدوران في الفلك وخلق ما في السماء من الشمس والقمر والنجوم، وجعل [ ص: 517 ] الشمس والقمر يسبحان في الفلك، فينشأ منهما ظلمة الليل وبياض النهار . فمن حينئذ جعل بحسب الهلال . فالسنة في الشرع مقدرة بسير القمر وطلوعه، لا بسير الشمس وانتقالها . كما يفعله أهل الكتاب . وجعل الله تعالى من هذه الأشهر السنة اثني عشر شهرا وقد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وذكر أنها ثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، وهو شهر رجب . أربعة أشهر حرما،
وهذا قد يستدل به من يقول: إنها من سنتين، وقد روي من حديث مرفوعا: ابن عمر "أولهن رجب "، وفي إسناده موسى بن عبيدة، وفيه ضعف شديد من قبل حفظه، وقد حكي عن أهل المدينة أنهم جعلوها من سنتين . وأن أولها ذو القعدة، ثم ذو الحجة، ثم المحرم، ثم رجب، فيكون رجب آخرها .
وعن بعض المدنيين أن أولها رجب، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحجة ثم المحرم . وعن بعض أهل الكوفة أنها من سنة واحدة، أولها المحرم، ثم رجب، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحجة . واختلف في فقيل: رجب، قاله بعض الشافعية، وضعفه أي هذه الأشهر الحرم أفضل، النووي وغيره . وقيل: المحرم، قاله ورجحه الحسن، النووي . وقيل: ذو الحجة، روي عن وغيره، وهو أظهر، والله أعلم . سعيد بن جبير
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: مراده بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسيء، كما قال [ ص: 518 ] تعالى: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا" إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله
وقد اختلف في فقالت طائفة: كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر، فيحرمونها بدلها، ويحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا إلى ذلك، ولكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا . ثم من أهل هذه المقالة من قال: كانوا يحلون المحرم فيستحلون القتال فيه; لطول مدة التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة، ثم يحرمون صفرا مكانه، فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه، ومنهم من قال: كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونهما صفرين، ثم يحرمونهما من عام قابل ويسمونهما محرمين قاله تفسير النسيء، ابن زيد بن أسلم .
وقيل: بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا فأحلوه وجعلوا مكانه ربيعا . ثم يدور كذلك التحريم والتحليل والتأخير، إلى أن جاء الإسلام ووافق حجة الوداع، صار رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي، وهذا هو الذي رجحه ، وعلى هذا فالتغيير إنما وقع في عين الأشهر الحرم خاصة . وقالت طائفة أخرى: بل كانوا يزيدون في عدد شهور السنة، وظاهر الآية يشعر بذلك، حيث قال الله تعالى: أبو عبيد إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فذكر هذا توطئة لهدم النسيء وإبطاله . ثم من هؤلاء من قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، قاله مجاهد وأبو مالك ، قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، ويجعلون [ ص: 519 ] المحرم صفرا . وقال أبو مالك : كانوا يسقطون المحرم، ثم يقولون: صفرين . لصفر وربيع الأول وربيع الآخر، ثم يقولون: شهرا ربيع، ثم يقولون: لرمضان: شعبان، ولشوال: رمضان، ولذي القعدة: شوال، ولذي الحجة: ذو القعدة، على وجه ما ابتدأوا ، وللمحرم: ذو الحجة، فيعدون ما ناسؤوا على مستقبله، على وجه ما ابتدأوا . مجاهد
وعنه، قال: كانت الجاهلية يحجون في كل شهر من شهور السنة عامين . فوافق حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحجة، فقال: ومن هؤلاء من قال: كانت الجاهلية يجعلون الشهور اثني عشر شهرا وخمسة أيام، قاله "هذا يوم استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " . ، وهذا العدد قريب من عدد السنة الرومية" ولهذا جاء في مراسيل إياس بن معاوية عكرمة بن خالد فأشار إلى أن الشهر هلالي . ثم تارة ينقص وتارة يتم، ولعل أهل النسيء كانوا يتمون الشهور كلها . ويزيدون عليها، والله أعلم . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر: "والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وخنس إبهامه في الثالثة، وهكذا وهكذا، وهكذا" يعني: ثلاثين،
وقد قيل: إن ربيعة ومضر كانوا يحرمون أربعة أشهر من السنة مع اختلافهم في تعيين رجب منها، كما سنذكره إن شاء الله تعالى . وكانت بنو عوف بن لؤي يحرمون من السنة ثمانية أشهر، وهذا مبالغة في الزيادة على ما حرمه الله . واختلفوا فقالت طائفة: إنما عاد على وجهه في حجة الوداع، وأما حجة في أي عام عاد الحج إلى ذي الحجة على وجهه، واستدار الزمان [ ص: 520 ] فيه كهيئته، - رضي الله عنه -، فكانت قد وقعت في ذي القعدة . هذا قول أبي بكر الصديق مجاهد وعكرمة بن خالد وغيرهما . وقيل: إنه اجتمع في ذلك العام حج الأمم كلها في وقت واحد، فلذلك سمي يوم الحج الأكبر .
وقالت طائفة: بل وقعت حجة في ذي الحجة، قاله الصديق . وأنكر قول الإمام أحمد ، واستدل مجاهد فنادى يوم النحر: "لا يحج بعد العام مشرك" عليا وفي رواية: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر "واليوم يوم الحج الأكبر" وقد قال الله تعالى: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فسماه يوم الحج الأكبر، وهذا يدل على أن النداء وقع في ذي الحجة .
وخرج في "أوسطه " من الطبراني ، عن أبيه . عن جده قال: كان عمرو بن شعيب العرب يحلون عاما شهرا، وعاما شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل ستة وعشرين سنة مرة واحدة، وهو النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حج بالناس، وافق في ذلك العام الحج، فسماه الله يوم الحج الأكبر . ثم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل، فاستقبل الناس الأهلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أبو بكر الصديق وقيل: بل استدارة الزمان كهيئته كان من عام الفتح . حديث
وخرج في "مسنده " من حديث البزار سمرة بن جندب وفي إسناده أن رسول الله [ ص: 521 ] - صلى الله عليه وسلم – قال لهم يوم الفتح: "إن هذا العام الحج الأكبر، قد اجتمع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات، واجتمع حج اليهود والنصارى في ستة أيام متتابعات . ولم يجتمع منذ خلق الله السماوات والأرض، ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة " . يوسف السمتي، وهو ضعيف جدا، واختلفوا لم سميت هذه الأشهر الأربعة حرما؟ .
فقيل: لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها .
قال علي بن أبي طلحة ، عن : اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم . قال ابن عباس : اختار الله الزمان، فأحبه إلى الله الأشهر الحرم . وقد روي مرفوعا، ولا يصح رفعه . كعب
وقد قيل في قوله تعالى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم إن المراد في الأشهر الحرم، وقيل: بل في جميع شهور السنة . وقيل: إنما سميت حرما لتحريم القتال فيها . وكان ذلك معروفا في الجاهلية . وقيل: إنه كان في عهد إبراهيم - عليه السلام -، وقيل: إن سبب تحريم هذه الأشهر الأربعة بين العرب لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحرم شهر ذي الحجة، لوقوع الحج فيه، وحرم معه شهر ذي القعدة، للسير فيه إلى الحج . وشهر المحرم، للرجوع فيه من الحج، حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه . وحرم شهر رجب، للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبا من مكة . وقد شرع الله في أول الإسلام تحريم قال تعالى: [ ص: 522 ] القتال في الشهر الحرام، لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام وقال تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل
وخرج بإسناده عن ابن أبي حاتم جندب بن عبد الله عبد الله بن جحش، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين . قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير الآية . وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رهطا وبعث عليهم عن السدي أبي مالك ، وعن ، عن أبي صالح ، وعن ابن عباس مرة، عن في هذه الآية، فذكروا هذه القصة مبسوطة، وقالوا فيها: ابن مسعود فقال المشركون: يزعم محمد يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام، فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى . وقيل: في أول رجب وآخر ليلة من جمادى، وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب، وأنزل الله تعالى تعييرا لأهل مكة: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عن محمد وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام حين أخرجوا منه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أكبر من القتل عند الله .
وقد روي عن هذا المعنى من رواية ابن عباس عنه، ومن رواية العوفي أبي سعد البقال، عن ، عنه . [ ص: 523 ] ومن رواية عكرمة ، عن الكلبي ، عنه . أبي صالح
وذكر ابن إسحاق أن ذلك كان في آخر يوم من رجب، وأنهم خافوا إن أخروا القتال أن يسبقهم المشركون فيدخلوا الحرم فيأمنوا . وأنهم لما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ولم يأخذ من غنيمتهم شيئا" وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، فقال من بمكة من المسلمين: إنما قتلوهم في شعبان .
فلما أكثر الناس في ذلك نزل قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير الآية . وروي نحو هذا السياق عن ، عروة وغيرهما . وقيل: إنها كانت أول غنيمة غنمها المسلمون، وقال والزهري عبد الله بن جحش في ذلك، وقيل: إنها لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .
تعدون قتلا في الحرام عظيمة . وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد .
وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله .
لئلا يرى لله في البيت ساجد
في أبيات أخر .
وقد اختلف العلماء في حكم فالجمهور على أنه نسخ تحريمه، ونص على نسخه القتال في الأشهر الحرم، هل تحريمه باق أم نسخ؟ وغيره من الأئمة . وذهب طائفة من السلف، منهم الإمام أحمد ، إلى بقاء تحريمه، ورجحه بعض المتأخرين واستدلوا بآية المائدة . والمائدة من آخر ما نزل من القرآن، وقد [ ص: 524 ] روي: عطاء "أحلوا حلالها وحرموا حرامها " .
وقيل: ليس فيها منسوخ . وفي "المسند" أن - رضي الله عنها -، قالت: "هي آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " وروى عائشة في "مسنده ": حدثنا الإمام أحمد إسحاق بن عيسى . حدثنا ليث بن سعد ، عن ، عن أبي الزبير ، قال: جابر وذكر بعضهم لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ويغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصر الطائف في شوال، فلما دخل ذو القعدة لم يقاتل، بل صابرهم، ثم رجع . وكذلك في عمرة الحديبية لم يقاتل، حتى بلغه أن قتل، فبايع على القتال، ثم لما بلغه أن ذلك لا حقيقة له كف . عثمان واستدل الجمهور بأن الصحابة اشتغلوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتح البلاد، ومواصلة القتال والجهاد، ولم ينقل عن أحد منهم أنه توقف عن القتال، وهو طالب له في شيء من الأشهر الحرم، وهذا يدل على اجتماعهم على نسخ ذلك، والله أعلم .
ما روي عن ومن عجائب الأشهر الحرم : أنه ذكر عجائب الدنيا، فعد منها عبد الله بن عمرو بن العاص بأرض عاد عمود نحاس، عليه شجرة من نحاس، فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء، فملؤوا منه حياضهم . وسقوا مواشيهم وزروعهم، فإذا ذهب الأشهر الحرم انقطع الماء .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: سمي رجب رجبا، لأنه كان يرجب، أي يعظم، كذا قال "ورجب مضر" ، الأصمعي والمفضل ، والفراء ، وقيل: لأن الملائكة تترجب [ ص: 525 ] للتسبيح والتحميد فيه، وفي ذلك حديث مرفوع إلا أنه موضوع .
وأما إضافته إلى "مضر"، فقيل: لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنسب إليهم لذلك . وقيل: بل كانت ربيعة تحرم رمضان، وتحرم مضر رجبا، فلذلك سماه رجب مضر، وحقق ذلك بقوله: "الذي بين جمادى وشعبان " .
وذكر بعضهم أن لشهر رجب أربعة عشر اسما: شهر الله، ورجب . ورجب مضر، ومنصل الأسنة، والأصم ، والأصب، ومنفس، ومطهر . ومعلى، ومقيم، وهرم، ومقشقش، ومبرئ، وفرد، وذكر غيره أن له سبعة عشر اسما، فزاد "رجم " بالميم، ومنصل الألة، وهي الحربة، ومنزع الأسنة .