[ ص: 490 ]
سورة التوبة
قوله تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون (17) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين
تكون بمعنيين: عمارة المساجد
أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك .
والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك . وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها .
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث وابن ماجه دراج، عن أبي الهيثم ، عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أبي سعيد إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر الآية . "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "، ثم تلا:
ولكن قال : هو منكر . [ ص: 491 ] وقوله: الإمام أحمد ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله وقرئ: "مسجد الله " .
فقيل: إن المراد به جميع المساجد على كلا القراءتين، فإن المفرد المضاف يعم، كقوله: أحل لكم ليلة الصيام
وقيل: المراد بالمسجد المسجد الحرام خاصة، كما قال: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون
وقيل: إنه المراد بالمساجد على القراءة الأخرى، وأنه جمعه لتعدد بقاع المناسك هناك، وكل واحد منها في معنى مسجد . روي ذلك عن . والله أعلم . عكرمة
فمن قال: إن المراد به المسجد الحرام خاصة، قال: لا يمكن الكفار من دخول الحرم كله، بدليل قوله تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
وجمهور أهل العلم على أن كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ينادي: الكفار يمنعون من سكنى الحرم، ودخوله بالكلية، وعمارته بالطواف وغيره، "لا يحج بعد العام مشرك " .
ورخص لهم في دخوله دون الإقامة به . أبو حنيفة
ومن قال: المراد جميع المساجد، فاختلفوا:
فمنهم: من قال: لا يمكن الكفار من قربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكلية . [ ص: 492 ] ومنهم: من رخص لهم في في الجملة . دخول مساجد الحل
ومنهم: من فرق بين أهل الكتاب والمشركين، فرخص فيه لأهل الكتاب دون المشركين .
وقد أفرد بابا لدخول المشرك المسجد، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى . البخاري
واتفقوا على لا نعلم في ذلك خلافا . منع الكفار من إظهار دينهم في مساجد المسلمين،
وهذا مما يدل على اتفاق الناس على أن العمارة المعنوية مرادة من الآية .
واختلفوا في ونحوه على قولين: تمكينهم من عمارة المساجد بالبنيان والترميم
أحدهما: المنع من ذلك، لدخوله في العمارة المذكورة في الآية، ذكر ذلك كثير من المفسرين كالواحدي وأبي الفرج ، وكلام ابن الجوزي في كتاب "أحكام القرآن " يوافق ذلك وكذلك القاضي أبي يعلى كيا الهراسي - من الشافعية -، وذكره البغوي منهم احتمالا .
والثاني: يجوز ذلك، ولا يمنعون منه، وصرح به طائفة من فقهاء أصحابنا والبغوي من الشافعية وغيرهم .
وهؤلاء منهم من حمل العمارة على العمارة المعنوية خاصة، ومنهم من قال: الآية إنما أريد بها المسجد الحرام، والكفار ممنوعون من دخول الحرم على كل وجه، بخلاف بقية المساجد، وهذا جواب ابن عقيل من أصحابنا . وقد روي عن ، أنه استعمل طائفة من النصارى في [ ص: 493 ] عمارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عمره في خلافة عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك .
ويتوجه قول ثالث، وهو: أن الكافر إن بنى مسجدا للمسلمين من ماله لم يمكن من ذلك . ولو لم يباشره بنفسه، وإن باشر بناءه بنفسه باستئجار المسلمين له جاز، فإن في قبول المسلمين منة الكفار ذلا للمسلمين، بخلاف استئجار الكفار للعمل للمسلمين، فإن فيه ذلا للكفار .
وقد اختلف الناس في هذا - أيضا - على قولين:
أحدهما: أنه لو فإنه تقبل وصيته، وصرح به وصى الكافر بمال للمسجد أو بمال يعمر به مسجد أو يوقد به، في "تعليقه " في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك . القاضي أبو يعلى
والثاني: المنع من ذلك، وأنه لا تقبل الوصية بذلك، وصرح به في "تفسيره" وذكره الواحدي ابن مزين في كتاب "سير الفقهاء" عن يحيى بن يحيى . قال: سمعت ، وسئل عن مالكا الكعبة; فأنكر ذلك، وقال: نصراني أوصى بمال تكسى به الكعبة منزهة عن ذلك . وكذلك المساجد لا تجري عليها وصايا أهل الكفر . وكذلك قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة: لا يصح وقف النصراني على المسلمين عموما، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين: ذكره عنه بإسناده . حرب،
وقال : سألت أبي عن عبد الله بن أحمد قال: أخشى أن ذلك ذلة . [ ص: 494 ] وقال المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ مهنا: قلت يأخذ المسلم من النصراني من صدقته شيئا . قال: نعم، إذا كان محتاجا . فقد يكون عن لأحمد: روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال، والله أعلم . أحمد
وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري . وقد ذكر أهل السير كالواقدي ومحمد بن سعد أن رجلا من أحبار اليهود . يقال له: مخيريق، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث شاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمواله، فقيل: إنه فرقها وتصدق بها، وقيل: إنه حبسها ووقفها .
وروى ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف . والله أعلم . ابن سعد