[قال ] : "باب فضل العمل في أيام التشريق ": البخاري
وقال : ابن عباس واذكروا الله في أيام معدودات أيام العشر . والأيام المعدودات: أيام التشريق . وكان ابن عمر يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، وكبر وأبو هريرة محمد بن علي خلف النافلة .
بوب على فضل أيام التشريق والعمل فيها، وذكر في الباب أيام التشريق وأيام العشر، وفضلهما جميعا .
وذكر عن : أن الأيام المعلومات المذكورة في سورة الحج هي أيام العشر، والأيام المعدودات المذكورة في سورة البقرة هي أيام التشريق . [ ص: 154 ] وفي كل منهما اختلاف بين العلماء . ابن عباس
فأما المعلومات: فقد روي عن ، أنها أيام عشر ذي الحجة، كما حكاه عنه ابن عباس . وروي - أيضا - عن البخاري ، وعن ابن عمر عطاء والحسن ومجاهد وعكرمة . وهو قول وقتادة أبي حنيفة والشافعي - في المشهور عنه . وأحمد
وقالت طائفة: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، روي عن وغيره من السلف، وقالوا: هي أيام الذبح . وروي - أيضا - عن ابن عمر علي ، وعن وابن عباس عطاء الخراساني . وهو قول والنخعي مالك وأبي يوسف ومحمد - في رواية عنه . ومن قال: أيام الذبح أربعة، قال: هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده . وقد روي عن وأحمد ، أنه قال - في خطبته يوم النحر -: هذا يوم الحج الأكبر، وهذه الأيام المعلومات التسعة التي ذكر الله في القرآن، لا يرد فيهن الدعاء، هذا يوم الحج الأكبر، وما بعده من الثلاثة اللائي ذكر الله الأيام المعدودات، لا يرد فيهن الدعاء . وهؤلاء جعلوا ذكر الله فيها هو ذكره على الذبائح . وروي عن أبي موسى الأشعري ، أن المعلومات أيام التشريق خاصة . والقول الأول أصح، فإن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذكره في هذه الأيام المعلومات: محمد بن كعب ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29) . [ ص: 155 ] والتفث: هو ما يصيب الحاج من الشعث والغبار . وقضاؤه: إكماله . وذلك يحصل يوم النحر بالتحلل فيه من الإحرام، فقد جعل ذلك بعد ذكر في الأيام المعلومات، فدل على أن الأيام المعلومات قبل يوم النحر الذي يقضى فيه التفث ويطوف فيه بالبيت العتيق . فلو كانت الأيام المعلومات أيام الذبح لكان الذكر فيها بعد قضاء التفث ووفاء النذور والتطوف بالبيت العتيق، والقرآن يدل على أن الذكر فيها قبل ذلك .
وأما قوله تعالى: على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
فإما أن يقال: إن ذكره على الذبائح يحصل في يوم النحر، وهو وهو آخر العشر . وإما أن يقال: إن ذكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، ليس هو ذكره على الذبائح، بل ذكره في أيام العشر كلها، شكرا على نعمة رزقه لنا من بهيمة الأنعام، فإن لله تعالى علينا فيها نعما كثيرة دنيوية ودينية . وقد عدد بعض الدنيوية في سورة النحل، وتختص عشر ذي الحجة منها بحمل أثقال الحاج، وإيصالهم إلى قضاء مناسكهم والانتفاع بركوبها ودرها ونسلها وأصوافها وأشعارها . وأما الدينية فكثيرة، مثل: إيجاب الهدي وإشعاره وتقليده، وغالبا يكون ذلك في أيام العشر أو بعضها، وذبحه في آخر العشر، والتقرب به إلى الله . والأكل من لحمه، وإطعام القانع والمعتر . [ ص: 156 ] فلذلك شرع ذكر الله في أيام العشر شكرا على هذه النعم كلها، كما صرح به في قوله تعالى: أفضل أوقات الذبح، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم كما أمر بالتكبير عند قضاء صيام رمضان، وإكمال العدة، شكرا على ما هدانا إليه من الصيام والقيام المقتضي لمغفرة الذنوب السابقة .
وأما الأيام المعدودات:
فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وغيرهما . واستدل وابن عباس بقوله: ابن عمر فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وإنما يكون التعجيل في ثاني أيام التشريق .
قال : ما أحسن ما قال الإمام أحمد . ابن عمر
وقد روي عن ابن عباس أنها أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة بعده . وعطاء
وفي إسناد المروي عن ضعف . ابن عباس
وأما ما ذكره عن البخاري ابن عمر ، فهو من رواية وأبي هريرة سلام أبي المنذر، عن حميد الأعرج ، عن ، أن مجاهد ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق يكبران، لا يخرجان إلا لذلك .
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في "كتاب الشافي " وأبو بكر المروذي القاضي في "كتاب العيدين " .
ورواه عفان: نا سلام أبو المنذر - فذكره، ولفظه: كان أبو هريرة يأتيان السوق أيام العشر، فيكبران، ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء [ ص: 157 ] إلا لذلك . وابن عمر
وروى ، من رواية جعفر الفريابي ، قال: رأيت يزيد بن أبي زياد سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدا - أو اثنين من هؤلاء الثلاثة - ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد" .
وروى عن المروزي، ، قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير . ميمون بن مهران
وهو مذهب ، ونص على أنه يجهر به . أحمد
وقال : يكبر عند رؤية الأضاحي . الشافعي
وكأنه أدخله في التكبير على بهيمة الأنعام المذكور في القرآن، وهو وإن كان داخلا فيه، إلا أنه لا يختص به، بل هو أعم من ذلك كما تقدم . وهذا على أصل الشافعي : في أن الأيام المعلومات هي أيام العشر . كما سبق . وأحمد
فأما من قال: هي أيام الذبح، فمنهم من لم يستحب وحكي عن التكبير في أيام العشر، مالك . ومن الناس من بالغ، وعده من البدع، ولم يبلغه ما في ذلك من السنة . وأبي حنيفة
وروى قال: سألت شعبة الحكم وحمادا عن التكبير أيام العشر; فقالا: لا; محدث . خرجه [ ص: 158 ] وخرج المروزي . من حديث الإمام أحمد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن عمر ويروى نحوه من حديث "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيه من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" . - مرفوعا، وفيه: ابن عباس "فأكثروا فيهن التهليل والتكبير، فإنها أيام تهليل وتكبير وذكر الله عز وجل " .
وأما ما ذكره عن محمد بن علي في التكبير خلف النافلة، فهو في أيام التشريق . ومراده: أن التكبير يشرع في أيام العشر وأيام التشريق جميعا .
* * *
أيام منى هي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: واذكروا الله في أيام معدودات وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، هذا قول وأكثر العلماء . وروي عن ابن عمر ابن عباس أنها أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، وسماها وعطاء أيام التشريق، والأول أظهر . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عطاء منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " خرجه أهل السنن الأربعة من حديث "أيام عبد [ ص: 159 ] الرحمن بن يعمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .
وهذا صريح في أنها أيام التشريق، وأفضلها أولها، وهو يوم القر; لأن أهل منى يستقرون فيه، ولا يجوز فيه النفر . وفي حديث عبد الله بن قرط عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد روي عن "أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر" . أن يوم الحج الأكبر هو يوم القر، وهو غريب . ثم يوم النفر الأول، وهو أوسطها . ثم يوم النفر الثاني، وهو آخرها، قال الله تعالى: سعيد بن المسيب فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه قال كثير من السلف: يريد أن المتعجل والمتأخر يغفر له، ويذهب عنه الإثم الذي كان عليه قبل حجه، إذا حج فلم يرفث ولم يفسق، ورجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ولهذا قال تعالى: لمن اتقى فتكون التقوى شرطا لذهاب الإثم على هذا التقدير، وتصير الآية دالة على ما صرح به قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .
وقد أمر الله تعالى بذكره في هذه الأيام المعدودات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وذكر الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق أنواع متعددة: "إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل "
منها: ذكر الله عز وجل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في أدبارها . وهو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء . وقد روي عن [ ص: 160 ] عمر وعلي ، وفيه حديث مرفوع في إسناده ضعف . وابن عباس
ومنها: ذكره فإن بالتسمية والتكبير عند ذبح النسك، يمتد إلى آخر أيام التشريق عند جماعة من العلماء، وهو قول وقت ذبح الهدايا والأضاحي ، ورواية عن الشافعي ، وفيه حديث مرفوع: الإمام أحمد منى ذبح "، وفي إسناده مقال . وأكثر الصحابة على أن الذبح يختص بيومين من أيام التشريق مع يوم النحر، وهو المشهور عن "كل أيام ، وقول أحمد ، مالك ، والأكثرين . وأبي حنيفة
ومنها: فإن المشروع في الأكل والشرب أن يسمي الله في أوله، ويحمده في آخره . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذكر الله عز وجل على الأكل والشرب; وقد روي "إن الله عز وجل يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها" . أن من سمى على أول طعامه وحمد الله على آخره، فقد أدى ثمنه، ولم يسأل بعد عن شكر . ومنها: ذكره وهذا يختص به أهل الموسم . بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق،
ومنها: ذكر الله تعالى المطلق، فإنه يستحب الإكثار منه في أيام التشريق . وقد كان يكبر عمر بمنى في قبته، فيسمعه الناس فيكبرون فترتج منى تكبيرا . وقد قال الله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) . وقد استحب كثير من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق .
قال : كان يستحب أن يقال في أيام التشريق: عكرمة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وعن ، قال: ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله: عطاء ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار خرجهما في "تفسيره" وهذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر منه . وروي أنه كان أكثر دعائه، وكان إذا دعا بدعاء جعله معه، فإنه يجمع خير الدنيا والآخرة . عبد بن حميد
قال الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة . الحسن:
وقال : الحسنة في الدنيا العلم والرزق الطيب; وفي الآخرة الجنة . والدعاء سفيان عز وجل . وقد روى من أفضل أنواع ذكر الله زياد الجصاص عن أبي كنانة القرشي أنه سمع ، يقول في خطبته يوم النحر: بعد يوم النحر ثلاثة أيام التي ذكر الله الأيام المعدودات لا يرد فيهن الدعاء . فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل . أبا موسى الأشعري
وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى، وهو أن سائر العبادات [ ص: 162 ] تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة .
وقد قال الله تعالى: أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة، فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وقال تعالى في صلاة الجمعة: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا وقال تعالى: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب (8) . روي عن ، قال: فإذا فرغت من الفرائض فانصب . وعنه في قوله تعالى: ابن مسعود وإلى ربك فارغب قال: في المسألة، وأنت جالس . وقال أمره إذا فرغ من غزوه أن يجتهد في الدعاء والعبادة . والأعمال كلها يفرغ منها، والذكر لا فراغ له، ولا انقضاء، والأعمال تنقطع بانقطاع الدنيا ولا يبقى منها شيء في الآخرة، والذكر لا ينقطع . المؤمن يعيش على الذكر، ويموت عليه، وعليه يبعث . الحسن:
أحسبتم أن الليالي غيرت . عهد الهوى لا كان من يتغير يفنى الزمان وليس يفنى ذكركم .
وعلى محبتكم أموت وأحشر
قال ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته . [ ص: 163 ] ذو النون:
بذكر الله ترتاح القلوب . ودنيانا بذكراه تطيب
إذا ذكر المحبوب عند حبيبه . ترنح نشوان وحن طروب
فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعمة، وكلما أحدثوا شكرا على النعمة كان شكرهم نعمة أخرى، فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبدا .
إذا كان شكري نعمة الله نعمة . علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله . وإن طالت الأيام واتصل العمر
وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات . وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله وبدلها كفرا، وهو جدير أن يسلبها، كما قيل: "إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل "،
إذا كنت في نعمة فارعها . فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله . فشكر الإله يزيل النقم
وخصوصا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام، كما في أيام التشريق، فإن هذه البهائم مطيعة لله لا تعصيه، وهي مسبحة له قانتة، كما قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده وأنها تسجد له، كما أخبر بذلك [ ص: 164 ] في سورة النحل وسورة الحج، وربما كانت أكثر ذكرا لله من بعض بني آدم . وفي "المسند" مرفوعا: "رب بهيمة خير من راكبها، وأكثر لله منه ذكرا" . وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن كثيرا من الجن والإنس كالأنعام بل هم أضل . فأباح الله عز وجل ذبح هذه البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوى بها أبدانهم، وتكمل لذاتهم في أكلهم اللحوم، فإنها من أجل الأغذية وألذها، مع أن الأبدان تقوم بغير اللحم من النباتات وغيرها، لكن لا تكمل القوة والعقل واللذة إلا باللحم، فأباح للمؤمن قتل هذه البهائم والأكل من لحومها، ليكمل بذلك قوة عباده وعقولهم، فيكون ذلك عونا لهم على علوم نافعة وأعمال صالحة يمتاز بها بنو آدم على البهائم، وعلى ذكر الله عز وجل، وهو أكثر من ذكر البهائم، فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلا مقابلة هذه النعم بالشكر عليها، والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، وذكره حيث فضل الله ابن آدم على كثير من المخلوقات، وسخر له هذه الحيوانات، قال الله تعالى: فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) . فأما من قتل هذه البهائم المطيعة الذاكرة لله عز وجل، ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله عز وجل، ونسي ذكر الله عز وجل، فقد قلب الأمر وكفر النعمة، فلا كان من كانت البهائم خيرا منه وأطوع .
نهارك يا مغرور سهو وغفلة . وليلك نوم والردى لك لازم
[ ص: 165 ] وتتعب فيما سوف تكره غبه . كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وإنما نهي عن لأنها أعياد للمسلمين مع يوم النحر . فلا تصام صيام أيام التشريق، بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء، خلافا لعطاء ، في قوله: إن النهي مختص بأهل منى، وإنما نهي عن التطوع بصيامها، سواء وافق عادة أو لم يوافق . فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر، أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي، ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يوم منها ويوم عند الأكثرين، إلا عند ، فإنه قال: في اليوم الثالث منها يجوز صيامه عن نذر خاصة . وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل فيها والشرب سر حسن . وهو أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك، شرع لهم الاستراحة عقيب ذلك بالإقامة مالك بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم، فهم في ضيافة الله عز وجل فيها، لطفا من الله بهم، ورأفة ورحمة . وشاركهم أيضا أهل الأمصار في ذلك; لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة والنصب لله والاجتهاد في عشر ذي الحجة، بالصوم والذكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في حصول المغفرة وفي التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي، فشاركوهم في أعيادهم، واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل والشرب، كما اشتركوا جميعا في أيام العشر في الاجتهاد في الطاعة والنصب، وصار المسلمون كلهم في ضيافة [ ص: 166 ] الله عز وجل في هذه الأيام، يأكلون من رزقه، ويشكرونه على فضله . ونهوا عن صيامها; لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه، فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام: قد فرغ عملكم الذي عملتموه، فما باقي لكم إلا الراحة; فهذه الراحة بذلك التعب، كما أريح الصائمون لله في شهر رمضان بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر . ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمن في الدنيا، فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج، وهي زمان إحرام المؤمن عما حرم الله عليه من الشهوات . فمن صبر في مدة سفره على إحرامه وكف عن الهوى، فإذا انتهى سفر عمره، ووصل إلى منى المنى، فقد قضى تفثه ووفى نذره، فصارت أيامه كلها كأيام منى، أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل . وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره أبد الأبد، ولهذا يقال لأهل الجنة: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وقد قيل: إنها نزلت في الصوام في الدنيا .