ذكر التشديد والسكون وكيفيتهما
اعلم أن التشديد ينقط على وجهين :
أحدهما أن تجعل علامته أبدا فوق الحرف ، ويعرب الحرف بالحركات اللائي يلحقنه ، فإن كان المشدد مفتوحا جعل على الشدة نقطة ، علامة للفتح ، نحو قوله : إن ربك ، و " الصدقين " ، و " الظلمين " ، و الرحمن الرحيم ، وشبهه . وإن كان مكسورا جعل تحت الحرف نقطة ، علامة للكسر ، وجعلت الشدة فوقه ، وذلك نحو قوله : رب العالمين ، و " لا ءامين " ، و من عدو ، و لجي ، وشبهه . وإن كان مضموما جعل أمام الحرف نقطة ، علامة للضم ، وجعلت الشدة فوقه ، نحو : رب العرش ، و ولي الذين ، و غني حميد ، وشبهه .
وصورة التشديد على هذا المذهب شين ، وهي كما ترى ( ب ) . وإنما جعلت الشين علامة له ؛ لأنه يراد أول ( شديد ) ، وهذا مذهب [ ص: 50 ] الخليل وعامة أصحابهما . وعلى ذلك سائر أهل المشرق من النقاط وغيرهم . وسيبويه
والوجه الثاني أن تجعل علامة التشديد دالا ، فوق الحرف إذا كان مفتوحا ، وتحته إذا كان مكسورا ، وأمامه إذا كان مضموما . وبعض أهل النقط يجعل مع الشدة الحركات ؛ تأكيدا في الدلالة على حقيقة إعراب الكلم وحركات الحروف . وبعضهم لا يجعلهن مع ذلك ؛ لما في صورته ومخالفة جعله في الحروف من الدليل على كيفية الإعراب والتحريك . وبعضهم يجعلهن معها في أطراف الكلم خاصة دون حشوهن ؛ لكون الأطراف مواضع الإعراب . وهو مذهب حسن .
وصورة التشديد على هذا المذهب في المفتوح كما ترى ( ث ) ، وفي المكسور ( ب ) ، وفي المضموم ( ت ) . وإلى هذا الوجه ذهب نقاط أهل المدينة من سلفهم وخلفهم ، وعلى استعماله واتباع أهل المدينة فيه عامة أهل بلدنا قديما وحديثا . وهو الذي أختار وبه أنقط .
حدثنا أحمد بن عمر القاضي ، قال : نا محمد بن منير ، قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، قال : نا : أن في مصاحف أهل قالون المدينة ما كان من حرف مشدد فعليه دال ، وفتحة الدال فوق . قال : وإن كان يرجع إلى الكسر فمن تحت الحرف . قال : ولم يذكر أبو عمرو الضم . قالون
وإنما جعل أهل المدينة علامة التشديد دالا ، من حيث كانت الدال آخر كلمة ( شديد ) . فدلوا عليه بآخر حرف من كلمته ، كما دل عليه النحويون ونقاط المشرق بأول حرف من كلمته . وفي كل واحد من الحرفين - الشين والدال - دلالة عليه ، غير أن اتباع أهل المدينة أولى ، والعمل بقولهم ألزم .
[ ص: 51 ] فأما ما يستعمله ناس من النقاط من جعل الشدة في الحرف المفتوح والمكسور قائمة الطرفين تحته أبدا ، وذلك في نحو قوله : إياك ، و " رب العلمين " ، و الضالين ، وشبهه ، وتعريبهم الحرف بحركته ، وصورة ذلك كما ترى في المفتوح ( ب ) ، وفي المكسور ( ب ) ؛ فخطأ ، لا وجه له ، مع خروجه عن فعل نقاط السلف ، واستعمال عامة الخلف ، من أهل المشرق والمغرب .
فصل
فأما السكون فعامة أهل بلدنا قديما وحديثا يجعلون علامته جرة فوق الحرف المسكن ، سواء كان همزة أو غيرها من سائر حروف المعجم ، نحو قوله : إن يشأ ، و " هيئ " ، و تسؤكم ، و أنبئهم ، و أرأيت ، و أفرأيتم ، وشبهه .
وأهل المدينة يجعلون علامته دارة صغيرة فوق الحرف . وكذا يجعلون هذه الدارة على الحرف الخفيف المختلف فيه بالتشديد والتخفيف ، والحرف الذي يخاف أن يشدده من لا معرفة له ، دلالة على خفته . حدثنا أحمد بن محفوظ ، قال : نا محمد بن أحمد ، قال : نا عبد الله بن عيسى ، قال : نا : أن في مصاحف أهل قالون المدينة ما كان من حرف مخفف فعليه دارة حمرة ، وإن كان حرفا مسكنا فكذلك أيضا .
قال : وأهل العربية من أبو عمرو وعامة أصحابه يجعلون علامته خاء ، [ ص: 52 ] يريدون بذلك أول كلمة ( خفيف ) . وذلك أراد نقاط أهل بلدنا ، إلا أنهم اختصروها بأن حذفوا رأسها ، وبقوا مطتها ، فصارت جرة كألف مبطوحة لكثرة استعمال هذا الضرب وتكرره . سيبويه
ومن أهل العربية من يجعل علامته هاء ، من حيث اختص بها الوقف الذي يلزم فيه تسكين المتحرك ، وذلك في نحو قوله : كتابيه ، و حسابيه ، و ماليه ، وشبهه . ومن حيث كانت أيضا عند النحويين البصريين حرفا غير حاجز ولا فاصل ، كسكون الساكن كذلك سواء ، لاشتراكهما في الخفة والخفاء ، فلذلك جعلت علامة له ، ودلالة عليه .
وإنما اكتفوا في علامة المخفف والمشدد بالخاء والشين وحدهما ، ودلوا بهما على ( خفيف ) ، و ( شديد ) ، من حيث جرى استعمال العرب لمثل ذلك في كلامهم ، فلفظوا بالحرف الواحد من الكلمة ، ودلوا به على سائرها ، إيجازا واختصارا . قال الشاعر :
نادوهم إذ ألجموا : ألا تا ؟ قالوا جميعا كلهم : ألا فا
[ ص: 53 ] يريد : ألا تركبون ؟ وألا فاركبوا . فنطق من الكلمة الأولى بتاء ، ومن الثانية بفاء ، ودل بالحرفين على الركوب . فكذلك دل بالخاء والشين على ( خفيف ) ، و ( شديد ) . وبالله التوفيق .* * *