الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 49 ] باب

ذكر التشديد والسكون وكيفيتهما

اعلم أن التشديد ينقط على وجهين :

أحدهما أن تجعل علامته أبدا فوق الحرف ، ويعرب الحرف بالحركات اللائي يلحقنه ، فإن كان المشدد مفتوحا جعل على الشدة نقطة ، علامة للفتح ، نحو قوله : إن ربك ، و " الصدقين " ، و " الظلمين " ، و الرحمن الرحيم ، وشبهه . وإن كان مكسورا جعل تحت الحرف نقطة ، علامة للكسر ، وجعلت الشدة فوقه ، وذلك نحو قوله : رب العالمين ، و " لا ءامين " ، و من عدو ، و لجي ، وشبهه . وإن كان مضموما جعل أمام الحرف نقطة ، علامة للضم ، وجعلت الشدة فوقه ، نحو : رب العرش ، و ولي الذين ، و غني حميد ، وشبهه .

وصورة التشديد على هذا المذهب شين ، وهي كما ترى ( ب ) . وإنما جعلت الشين علامة له ؛ لأنه يراد أول ( شديد ) ، وهذا مذهب الخليل [ ص: 50 ] وسيبويه وعامة أصحابهما . وعلى ذلك سائر أهل المشرق من النقاط وغيرهم .

والوجه الثاني أن تجعل علامة التشديد دالا ، فوق الحرف إذا كان مفتوحا ، وتحته إذا كان مكسورا ، وأمامه إذا كان مضموما . وبعض أهل النقط يجعل مع الشدة الحركات ؛ تأكيدا في الدلالة على حقيقة إعراب الكلم وحركات الحروف . وبعضهم لا يجعلهن مع ذلك ؛ لما في صورته ومخالفة جعله في الحروف من الدليل على كيفية الإعراب والتحريك . وبعضهم يجعلهن معها في أطراف الكلم خاصة دون حشوهن ؛ لكون الأطراف مواضع الإعراب . وهو مذهب حسن .

وصورة التشديد على هذا المذهب في المفتوح كما ترى ( ث ) ، وفي المكسور ( ب ) ، وفي المضموم ( ت ) . وإلى هذا الوجه ذهب نقاط أهل المدينة من سلفهم وخلفهم ، وعلى استعماله واتباع أهل المدينة فيه عامة أهل بلدنا قديما وحديثا . وهو الذي أختار وبه أنقط .

حدثنا أحمد بن عمر القاضي ، قال : نا محمد بن منير ، قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، قال : نا قالون : أن في مصاحف أهل المدينة ما كان من حرف مشدد فعليه دال ، وفتحة الدال فوق . قال : وإن كان يرجع إلى الكسر فمن تحت الحرف . قال أبو عمرو : ولم يذكر قالون الضم .

وإنما جعل أهل المدينة علامة التشديد دالا ، من حيث كانت الدال آخر كلمة ( شديد ) . فدلوا عليه بآخر حرف من كلمته ، كما دل عليه النحويون ونقاط المشرق بأول حرف من كلمته . وفي كل واحد من الحرفين - الشين والدال - دلالة عليه ، غير أن اتباع أهل المدينة أولى ، والعمل بقولهم ألزم .

[ ص: 51 ] فأما ما يستعمله ناس من النقاط من جعل الشدة في الحرف المفتوح والمكسور قائمة الطرفين تحته أبدا ، وذلك في نحو قوله : إياك ، و " رب العلمين " ، و الضالين ، وشبهه ، وتعريبهم الحرف بحركته ، وصورة ذلك كما ترى في المفتوح ( ب ) ، وفي المكسور ( ب ) ؛ فخطأ ، لا وجه له ، مع خروجه عن فعل نقاط السلف ، واستعمال عامة الخلف ، من أهل المشرق والمغرب .

فصل

فأما السكون فعامة أهل بلدنا قديما وحديثا يجعلون علامته جرة فوق الحرف المسكن ، سواء كان همزة أو غيرها من سائر حروف المعجم ، نحو قوله : إن يشأ ، و " هيئ " ، و تسؤكم ، و أنبئهم ، و أرأيت ، و أفرأيتم ، وشبهه .

وأهل المدينة يجعلون علامته دارة صغيرة فوق الحرف . وكذا يجعلون هذه الدارة على الحرف الخفيف المختلف فيه بالتشديد والتخفيف ، والحرف الذي يخاف أن يشدده من لا معرفة له ، دلالة على خفته . حدثنا أحمد بن محفوظ ، قال : نا محمد بن أحمد ، قال : نا عبد الله بن عيسى ، قال : نا قالون : أن في مصاحف أهل المدينة ما كان من حرف مخفف فعليه دارة حمرة ، وإن كان حرفا مسكنا فكذلك أيضا .

قال أبو عمرو : وأهل العربية من سيبويه وعامة أصحابه يجعلون علامته خاء ، [ ص: 52 ] يريدون بذلك أول كلمة ( خفيف ) . وذلك أراد نقاط أهل بلدنا ، إلا أنهم اختصروها بأن حذفوا رأسها ، وبقوا مطتها ، فصارت جرة كألف مبطوحة لكثرة استعمال هذا الضرب وتكرره .

ومن أهل العربية من يجعل علامته هاء ، من حيث اختص بها الوقف الذي يلزم فيه تسكين المتحرك ، وذلك في نحو قوله : كتابيه ، و حسابيه ، و ماليه ، وشبهه . ومن حيث كانت أيضا عند النحويين البصريين حرفا غير حاجز ولا فاصل ، كسكون الساكن كذلك سواء ، لاشتراكهما في الخفة والخفاء ، فلذلك جعلت علامة له ، ودلالة عليه .

وإنما اكتفوا في علامة المخفف والمشدد بالخاء والشين وحدهما ، ودلوا بهما على ( خفيف ) ، و ( شديد ) ، من حيث جرى استعمال العرب لمثل ذلك في كلامهم ، فلفظوا بالحرف الواحد من الكلمة ، ودلوا به على سائرها ، إيجازا واختصارا . قال الشاعر :


نادوهم إذ ألجموا : ألا تا ؟ قالوا جميعا كلهم : ألا فا

[ ص: 53 ] يريد : ألا تركبون ؟ وألا فاركبوا . فنطق من الكلمة الأولى بتاء ، ومن الثانية بفاء ، ودل بالحرفين على الركوب . فكذلك دل بالخاء والشين على ( خفيف ) ، و ( شديد ) . وبالله التوفيق .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية