الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 25 ] باب

ذكر القول في حروف التهجي ، وترتيب رسمها في الكتابة

حدثنا عبد الرحمن بن عثمان ، قال : نا قاسم بن أصبغ ، قال : نا أحمد بن زهير ، قال : نا الفضل بن دكين ، قال : نا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن سمرة بن جندب قال : نظرت في كتاب العربية ، فوجدتها قد مرت بالأنبار قبل أن تمر بالحيرة .

حدثنا ابن عفان ، قال : نا قاسم ، قال : نا أحمد ، قال : نا الزبير بن بكار ، قال : حدثني إبراهيم بن المنذر ، قال : حدثني عبد العزيز بن عمران ، قال : حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيب ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أول من نطق بالعربية ، فوضع الكتاب على لفظه ومنطقه ، ثم جعله كتابا واحدا مثل ( بسمالله ) الموصول ، حتى فرق بينه ولده : إسماعيل بن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن فراس المكي ، قال : نا عبد الرحمن بن عبد الله [ ص: 26 ] ابن محمد ، قال : حدثني جدي ، قال : نا سفيان بن عيينة ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : سألنا المهاجرين : من أين تعلمتم الكتاب ؟ قالوا : من أهل الحيرة . وقالوا لأهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتاب ؟ قالوا : من أهل الأنبار .

قال أبو عمرو : وفي كتاب محمد بن سحنون : حدثنا أبو الحجاج - واسمه سكن بن ثابت - قال : نا عبد الله بن فروخ ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري ، عن أبيه زياد بن أنعم قال : قلت لعبد الله بن عباس : معاشر قريش ، هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي ، تجمعون فيه ما اجتمع ، وتفرقون فيه ما افترق هجاء بالألف واللام والميم ، والشكل والقطع ، وما يكتب به اليوم ، قبل أن يبعث الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قلت : فمن علمكم الكتاب ؟ قال : حرب بن أمية . قلت : فمن علم حرب بن أمية ؟ قال : عبد الله بن جدعان . قلت : فمن علم عبد الله بن جدعان ؟ قال : أهل الأنبار . قلت : فمن علم أهل الأنبار ؟ قال : طارئ طرأ عليهم من أرض اليمن ، من كندة . قلت : فمن علم الطارئ ؟ قال : الجلجان بن الموهم ، كان كاتب هود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي عن الله - عز وجل - .

[ ص: 27 ] حدثنا ابن عفان ، قال : نا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن أبي خيثمة ، قال : حروف ألف ب ت ث تسعة وعشرون حرفا ، عليها يدور الكلام كله ، والكتاب العربي .

حدثنا إبراهيم بن الخطاب اللمائي ، قال : نا أحمد بن خالد ، قال : نا سلمة بن الفضل ، قال : نا عبد الله بن ناجية ، قال : نا أحمد بن موسى بن إسماعيل الأنباري ، قال : نا محمد بن حاتم المؤدب ، قال : نا أحمد بن غسان ، قال : نا حامد المدائني ، قال : نا عبد الله بن سعيد ، قال : بلغنا أنه لما عرضت حروف المعجم على الرحمن - تبارك اسمه ، وتعالى جده - ، وهي تسعة وعشرون حرفا ؛ تواضع الألف من بينها ، فشكر الله له تواضعه ، فجعله قائما أمام كل اسم من أسمائه .

قال أبو عمرو : وقال بعض أهل اللغة : إنما تقدمت الألف سائر الحروف لأجل أنها صورة للهمزة المتقدمة في الكلام ، وللألف اللينة ، ولسائر الهمزات أحيانا ، فلما انفردت بأن تكون صورة الهمزة المتقدمة في الكلام ، وشاركت [ ص: 28 ] الواو والياء في أن تكون مرة صورة لنفسها ، ومرة صورة للهمزة المتوسطة والمتأخرة ؛ قدمت .

قال : وإنما وليها الباء والتاء والثاء ؛ لأنها أكثر الحروف شبها ، إذ كانت الياء والنون إذا وقعتا في أول كلمة أو وسطها أشبهتاها ، فصارت خمسة مشتبهة ، فأوجبت كثرتها تقديمها . ثم الجيم والحاء والخاء . ثم المزدوجة . وإن تقدم بعض المتشابهات والمزدوجات وما بعد ذلك إلى آخر الحروف على بعض ، على قدر الكثرة في الكلام والقلة ؛ فكل ما كان من ذلك مقدما على غيره في الترتيب ؛ فهو في الكلام أكثر دورانا ، إلا ما له من ذلك صورتان مختلفتان في التطرف والتقدم والتوسط ، وذلك النون والياء ، فإنهما - وإن تأخرتا - كالمتقدمتين ؛ لتقدم أشباههما .

قال : ومن الحروف ما لا يتصل به شيء بعده ، وهي ستة : الألف ، والدال ، والذال ، والراء ، والزاي ، والواو . ويمكن أن تكون كذلك لئلا تلتبس بغيرها ؛ إذ لو اتصل بالألف شيء بعدها لأشبهت اللام ، ولو اتصل بالواو شيء لأشبهت الفاء والقاف ، ولو اتصل بالدال والذال والراء والزاي شيء لأشبهت الياء والتاء وما أشبهها .

قال أبو عمرو : والذي قاله في ترتيب رسم الحروف ترتيب حسن . وأنا أزيد في شرحه وبيانه ما لم أجده لسالف ، ولا رأيته لمتقدم ، فأقول :

إنما تقدمت الألف ، وإن كانت منفردة ، للمذكور في الخبر والنظر من استحقاقها ذلك ، ولتقدمها أيضا في أول الفاتحة التي هي أم القرآن ، ولكثرة دورها في الكلام وترددها في المنطق ، إذ هي أكثر الحروف دورا وترددا .

[ ص: 29 ] ثم وليتها الباء والتاء والثاء ؛ لكثرتهن ، إذ هن ثلاث ، وكونهن على صورة واحدة . وما كثر عدده ، واتفقت صورته ؛ فالعادة جارية على تقديمه . وتقدمت الباء لتقدمها في التسمية التي يستفتح بها مع التعوذ الذي أوله الألف المتقدمة ، ولتقدمها في حروف ( أبي جاد ) التي هي أصل حروف التهجي . ولأنها أيضا تنقط واحدة ، والتاء اثنتين ، والثاء ثلاثا ، على ترتيب العدد . فوجب أن تكون الباء أولا ، ثم التاء ، ثم الثاء لذلك . وقد يكون تقدم التاء لكثرتها ، وتأخير الثاء لقلتها ، إذ الكثير أولى بالتقديم من القليل الدور .

ثم وليتهن الجيم والحاء والخاء ؛ لكثرتهن أيضا ، واتفاق صورتهن ، إذ هن ثلاث على صورة واحدة ، واتصال الجيم بالباء في كلمة ( أبي جاد ) . وتقدمت الجيم الحاء ؛ لتقدمها عليها في ذلك . وتقدمت الحاء الخاء ؛ لتقدمها عليها في المخرج من الحلق ، إذ هي من وسطه ، والخاء من أدناه إلى الفم ، فلذلك جاءت آخرا .

ثم وليتهن الدال والذال ، وهما على صورة واحدة ؛ لاشتباه صورتهما بصورتهن . وتقدمت الدال لتقدمها في حروف ( أبي جاد ) ، ولأنها أقرب إلى الجيم من الذال .

ثم وليتهما الراء والزاي ، وهما على صورة واحدة ؛ لقرب صورتهما من صورتهما . وتقدمت الراء ، وإن كانت الزاي متقدمة على الراء في حروف ( أبي جاد ) ، موافقة للحاء والخاء ، والدال والذال ، من جهة الإعجام . إذ كانت الحاء [ ص: 30 ] المتقدمة على الخاء ، والدال المتقدمة على الذال غير منقوطتين ؛ فكذلك الراء المتقدمة على الزاي مثلهما سواء ؛ ليأتي المزدوج كله على طريقة واحدة ، ولا يختلف .

إلى هاهنا اتفق ترتيب الجميع ، من السلف وتابعيهم ، من أهل المشرق وأهل المغرب . واختلفوا في ترتيب ما بعد ذلك من المزدوج والمنفرد إلى آخر الحروف .

فرسم أهل المشرق بعد الراء والزاي ، السين والشين ، وهما على صورة واحدة ؛ لمؤاخاة السين الزاي في الصفير الذي هو زيادة الصوت . وتقدمت السين الشين ، كما تقدم غير المعجم من المشتبهين في الصورة المعجم ؛ لأن الاشتباه وقع بالثاني من المزدوج ، لا بالأول ؛ لأن الأول جاء على أصله من التعرية . ففرق بينهما بأن نقط الثاني . لأن النقط إنما استعمل ليفرق به بين المشتبه من الحروف في الصورة لا غير . ولولا ذلك لم يحتج إليه ، ولا استعمل . فهو فرع ، والتعرية أصل . والأصل يقدم على الفرع ، فلذلك تقدم غير المنقوط من المزدوج .

ثم الصاد والضاد ، وهما على صورة واحدة ؛ لمشاركة الصاد السين في الصفير والهمس جميعا . وتقدمت الصاد الضاد ، كما تقدمت السين الشين . ولم يرسموهما قبل السين والشين ، وإن كانتا متقدمتين عليهما في حروف ( أبي جاد ) ؛ لمؤاخاة السين الزاي في الصوت ، ومشاركة الشين الجيم في المخرج ، فقدما لذلك عليهما .

ثم الطاء والظاء ، وهما على صورة واحدة ؛ لمشاركتهما الصاد والضاد في الإطباق والاستعلاء ، فولياهما لذلك . وتقدمت الطاء الظاء ، كما تقدمت الصاد [ ص: 31 ] الضاد ، ولتقدمها أيضا في حروف ( أبي جاد ) ، ومؤاخاتها الدال في المخرج .

ثم العين والغين ، وهما على صورة واحدة ؛ لكونهما آخر ما بقي من المزدوج ، فلذلك رسما آخرا . وتقدمت العين الغين ، كما تقدمت الحاء الخاء ، من طريق المخرج ، وجهة الإعجام .

ثم رسموا المنفرد ، فرسموا بعد العين والغين الفاء والقاف ، وقدما لاتفاق صورتهما في غير الأطراف من الكلم ، فأشبها المزدوج بذلك ، فقدما على سائر المنفرد ؛ إذ الفاء متصلة بالعين ، ومرسومة بعدها في حروف ( أبي جاد ) . وتقدمت الفاء القاف ؛ لتقدمها عليها في حروف ( أبي جاد ) ، ولتعاقبها مع الثاء المتقدمة في حروف التهجي ، في نحو جدث وجدف ، وثوم وفوم .

ثم الكاف ، ثم اللام ، ثم الميم ، ثم النون ، موافقة لترتيب رسمهن في كلمة ( كلمن ) . وتقدمت الكاف لتقدمها في ذلك ، ولاشتراكها مع القاف التي وليتها في مخرج أقصى اللسان . وتقدمت اللام الميم والنون لاشتباه صورتها بصورة الألف المتقدمة في حروف التهجي . وتقدمت الميم النون لقوتها ، ولزوم صوتها ، إذ كان غير زائل عنها ، من حيث امتنع إدغامها في مقاربها ، وكان صوت النون قد يزول عنها بالإدغام ، ويذهب لفظها من الفم أيضا ، فلا يبقى منها إلا غنة من الخيشوم ، ولأن الميم من مخرج الباء المتقدمة في حروف ( أبي جاد ) ، ولأنها تبدل من النون إذا لقيت باء .

[ ص: 32 ] ثم الواو ، ثم الهاء ، ثم الياء ، وهن آخر ما بقي من المنفرد . وتقدمت الواو لقرب صورتها من صورة القاف الموافقة للفاء في الصورة . وتقدمت الهاء الياء لتقدمها عليها في حروف ( أبي جاد ) . وصارت الياء آخر الحروف للتعريف بصورتها إذا وقعت آخر الكلمة ، إذ صورتها هناك مخالفة لصورتها إذا وقعت أولا ووسطا . وكذلك أخروا اللام ألف ، ورسمت قبلها لاختلاف صورتها في الانفراد والاختلاط .

ورسم أهل المغرب بعد الراء والزاي الطاء والظاء ؛ لكون الطاء من مخرج الدال ، وكون الظاء من مخرج الذال . وتقدمت الطاء الظاء ، كما تقدمت الدال الذال .

ثم الكاف ، واللام ، والميم ، والنون ؛ موافقة لرسمهن في ( كلمن ) ، ولتقدمهن على سائر المزدوج في حروف ( أبي جاد ) ، ولإتيانهن بعد الطاء في ذلك أيضا .

ثم الصاد والضاد لكونهما مرسومين بعد كلمة ( كلمن ) في قولهم : ( صعفض ) . وتقدمت الصاد لتقدمها في ذلك ، ولكون غير المنقوط من المزدوج مقدما على المنقوط ؛ ليتميز بذلك الثاني من الأول ، والمؤخر من المقدم .

ثم العين والغين ؛ لكون العين بعد الصاد في حروف ( أبي جاد ) ، وشبه الغين بها في الصورة . وتقدمت العين لتقدمها هناك ، وفي المخرج من الحلق ؛ لأنها من وسطه ، والغين من أدناه إلى الفم ، ولخلوها أيضا من النقط .

[ ص: 33 ] ثم الفاء والقاف ؛ لكون الفاء في حروف ( أبي جاد ) بعد العين ، وشبه القاف بها في الصورة . وتقدمت الفاء لتقدمها هناك .

ثم السين والشين ؛ لكونهما آخر المزدوج . وتقدمت السين الشين ، كما تقدمت الصاد الضاد .

ثم الهاء والواو والياء ، وهن آخر حروف التهجي . وتقدمت الهاء الواو لتقدمها عليها في حروف ( أبي جاد ) ، في قولهم : ( هوز ) . وتقدمت الواو الياء لتقدم ( هوز ) على ( حطي ) .

قال أبو عمرو : فهذه علل ترتيب الحروف في الكتاب ، على الاتفاق والاختلاف ، والله ولي التوفيق .

حدثنا إبراهيم بن خطاب ، قال : نا أحمد بن خالد ، قال : نا سلمة بن الفضل ، قال : نا عبد الله بن ناجية ، قال : نا أحمد بن بديل الأيامي ، قال : نا عمرو بن حميد قاضي الدينور ، قال : نا فرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس قال : إن لكل شيء تفسيرا ، علمه من علمه ، وجهله من جهله . ثم فسر ( أبو جاد ) : أبى آدم الطاعة ، وجد في أكل الشجرة . و ( هواز ) : زل فهوى من السماء إلى الأرض . و ( حطي ) : حطت عنه خطاياه . ( كلمن ) : أكل من الشجرة ، ومن عليه بالتوبة . ( صعفض ) : عصى فأخرج من النعيم إلى النكد . ( قريسيات ) : أقر بالذنب ، فأمن العقوبة .

أخبرنا عبد بن أحمد الهروي في كتابه قال : نا عمر بن أحمد بن شاهين ، قال : نا موسى بن عبيد الله ، قال : نا عبد الله بن أبي سعيد ، قال : نا محمد بن حميد ، قال : نا سلمة بن الفضل ، قال : نا أبو عبد الله البجلي قال : ( أبو جاد ) ، و ( هواز ) ، و ( حطي ) ، و ( كلمن ) ، و ( صعفض ) ، و ( قريسيات ) أسماء [ ص: 34 ] ملوك مدين ، وكان ملكهم يوم الظلة ، في زمان شعيب ، كلمون .

قال أبو عمرو : وذكر بعض النحويين أن قولهم : ( أبو جاد ) ، و ( هواز ) ، و ( حطي ) عربية ، وهي تجري مجرى زيد وعمرو في الانصراف . و ( كلمن ) ، و ( صعفض ) ، و ( قريسيات ) أعجمية لا ينصرفن ، إلا أن ( قريسيات ) تصرف كعرفات وأذرعات .

وقال قطرب : إنما كتبوا ( أبجد ) بلا ألف ولا واو ؛ لأن هذا إنما وضع في الكتاب لدلالة المتعلم على الحروف ، فكرهوا أن يطولوا عليه ، فلم يعيدوا المثال مرتين ، فكتبوا ( أبجد ) بلا واو ولا ألف ؛ لأن معنى الألف في ( أبجد ) ، والواو في ( هوز ) قد أثبت ، فوضحت صورتهما . وكلما مثل الحرف مرة استغني عن إعادته . وإنما أثبتت ياء ( حطي ) مع ياء ( قريسيات ) لاختلاف الصورتين ، يعني صورتها في الطرف ، وصورتها في غيره . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية