[ ص: 18 ] باب
، وما يستعمل له من الألوان ، وما يكره من جمع قراءات شتى وروايات مختلفة في مصحف واحد ، وما يتصل بذلك من المعاني اللطيفة والنكت الخفية جامع القول في النقط ، وعلى ما يبنى من الوصل والوقف
اعلم - أيدك الله بتوفيقه - أن الذي دعا السلف - رضي الله عنهم - إلى نقط المصاحف ، بعد أن كانت خالية من ذلك ، وعارية منه وقت رسمها وحين توجيهها إلى الأمصار ، للمعنى الذي بيناه ، والوجه الذي شرحناه ، ما شاهدوه من أهل عصرهم ، مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها من فساد ألسنتهم ، واختلاف ألفاظهم ، وتغير طباعهم ، ودخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم ، وما خافوه مع مرور الأيام وتطاول الأزمان من تزيد ذلك ، وتضاعفه فيمن يأتي بعد ، ممن هو - لا شك - في العلم والفصاحة والفهم والدراية دون من شاهدوه ، ممن عرض له الفساد ، ودخل عليه اللحن ، [ ص: 19 ] لكي يرجع إلى نقطها ، ويصار إلى شكلها ، عند دخول الشكوك ، وعدم المعرفة ، ويتحقق بذلك إعراب الكلم ، وتدرك به كيفية الألفاظ .
ثم إنهم لما رأوا ذلك ، وقادهم الاجتهاد إليه بنوه على وصل القارئ بالكلم ، دون وقفه عليهن ، فأعربوا أواخرهن لذلك ؛ لأن الإشكال أكثر ما يدخل على المبتدئ المتعلم ، والوهم أكثر ما يعرض لمن لا يبصر الإعراب ، ولا يعرف القراءة في إعراب أواخر الأسماء والأفعال ، فلذلك بنوا النقط على الوصل دون الوقف . وأيضا فإن القارئ قد يقرأ الآية والأكثر في نفس واحد ، ولا يقطع على شيء من كلمها ، فلا بد من إعراب ما يصله من ذلك ضرورة .
قال : فأما نقط المصاحف بالسواد من الحبر وغيره ؛ فلا أستجيزه ، بل أنهى عنه ، وأنكره اقتداء بمن ابتدأ النقط من السلف ، واتباعا له في استعماله لذلك صبغا يخالف لون المداد ، إذ كان لا يحدث في المرسوم تغييرا ولا تخليطا ، والسواد يحدث ذلك فيه . ألا ترى أنه ربما زيد في النقطة فتوهمت - لأجل السواد الذي به ترسم الحروف - أنها حرف من الكلمة ، فزيد في تلاوتها لذلك ، ولأجل هذا وردت الكراهة عمن تقدم من الصحابة وغيرهم في نقط المصاحف . أبو عمرو
والذي يستعمله نقاط أهل المدينة - في قديم الدهر وحديثه - من الألوان في نقط مصاحفهم الحمرة والصفرة لا غير . فأما الحمرة فللحركات والسكون والتشديد والتخفيف ، وأما الصفرة فللهمزات خاصة ، كما نا أحمد بن عمر الجيزي ، قال : نا محمد بن أحمد بن منير ، قال : نا عبد الله بن عيسى المدني ، قال : نا : أن في مصاحف [ ص: 20 ] أهل قالون المدينة ما كان من حرف مخفف فعليه دارة حمرة ، وإن كان حرفا مسكنا فكذلك أيضا . قال : وما كان من الحروف التي بنقط الصفرة فمهموزة .
قال : وعلى ما استعمله أهل أبو عمرو المدينة من هذين اللونين ، في المواضع التي ذكرناها ، عامة نقاط أهل بلدنا قديما وحديثا ، من زمان الغازي بن قيس صاحب - رحمه الله - إلى وقتنا هذا ؛ اقتداء بمذاهبهم ، واتباعا لسننهم . نافع بن أبي نعيم
فأما نقاط أهل العراق فيستعملون للحركات وغيرها وللهمزات الحمرة وحدها ، وبذلك تعرف مصاحفهم ، وتميز من غيرها .
وطوائف من أهل الكوفة والبصرة قد يدخلون الحروف الشواذ في المصاحف وينقطونها بالخضرة ، وربما جعلوا الخضرة للقراءة المشهورة الصحيحة ، وجعلوا الحمرة للقراءة الشاذة المتروكة ، وذلك تخليط وتغيير ، وقد كره ذلك جماعة من العلماء .
أخبرني الخاقاني أن محمد بن عبد الله الأصبهاني حدثهم بإسناده عن أحمد بن جبير الأنطاكي ، قال : إياك والخضرة التي تكون في المصاحف ؛ فإنه يكون فيها لحن ، وخلاف للتأويل ، وحروف لم يقرأ بها أحد .
قال : وأكره من ذلك ، وأقبح منه : ما استعمله ناس من القراء ، وجهلة من النقاط ، من جمع قراءات شتى ، وحروف مختلفة ، في مصحف واحد ، وجعلهم لكل قراءة وحرف لونا من الألوان المخالفة للسواد ، كالحمرة والخضرة والصفرة واللازورد ، وتنبيههم على ذلك في أول المصحف ، ودلالتهم عليه هناك ؛ لكي تعرف القراءات ، وتميز الحروف . إذ ذلك من أعظم التخليط ، وأشد التغيير للمرسوم . أبو عمرو
[ ص: 21 ] ومن الدلالة على كراهة ذلك ، والمنع منه سوى ما قدمناه من الأخبار عن ابن مسعود وغيرهما : ما حدثناه والحسن خلف بن إبراهيم بن محمد ، قال : نا أحمد بن محمد ، قال : نا علي بن عبد العزيز ، قال : نا ، قال : نا القاسم بن سلام ، عن هشيم أبي بشر ، عن ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ : ابن عباس عباد الرحمن . قال سعيد : فقلت : إن في مصحفي ( عند الرحمن ) . فقال : امحها ، واكتبها لابن عباس عباد الرحمن . ألا ترى - رحمه الله - قد أمر ابن عباس بمحو إحدى القراءتين ، وإثبات الثانية ، مع علمه بصحة القراءتين في ذلك ، وأنهما منزلتان من عند الله تعالى ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما جميعا ، وأقرأ بهما أصحابه . غير أن التي أمره بإثباتها منهما كانت اختياره ؛ إما لكثرة القارئين بها من الصحابة ، وإما لشيء صح عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو أمر شاهده من علية الصحابة . سعيد بن جبير
فلو كان جمع القراءات ، وإثبات الروايات والوجوه واللغات في مصحف واحد جائزا ؛ لأمر ابن عباس سعيدا بإثباتهما معا في مصحفه بنقطة يجعلها فوق الحرف الذي بعد العين ، وضمة أمام الدال ، دون ألف مرسومة بينهما ، إذ قد تسقط من الرسم في نحو ذلك كثيرا لخفتها ، وتترك النقطة التي فوق ذلك الحرف ، والفتحة التي على الدال ، فتجتمع بذلك القراءتان في الكلمة المتقدمة ، ولم يأمره بتغيير إحداهما ومحوها ، وإثبات الثانية خاصة . فبان بذلك صحة ما قلناه ، وما ذهب إليه العلماء من كراهة ذلك لأجل التخليط على القارئين ، والتغيير للمرسوم .
على أن أبا الحسين بن المنادي قد أشار إلى إجازة ذلك ، فقال في كتابه في النقط : وإذا نقطت ما يقرأ على وجهين فأكثر ، فارسم في رقعة غير ملصقة [ ص: 22 ] بالمصحف أسماء الألوان ، وأسماء القراء ؛ ليعرف ذلك الذي يقرأ فيه ، ولتكن الأصباغ صوافي لامعات ، والأقلام بين الشدة واللين . قال : وإن شئت أن تجعل النقط مدورا فلا بأس بذلك . وإن جعلت بعضه مدورا ، وبعضه بشكل الشعر فغير ضائر ، بعد أن تعطي الحروف ذوات الاختلاف حقوقها . قال : وكان بعض الكتاب لا يغير رسم المصحف الأول ، وإذا مر بحرف يعلم أن النقط والشكل لا يضبطه ؛ كتب ما يريد من القراءات المختلفة تعليقا بألوان مختلفة . وهذا كله موجود في المصاحف .
قال : وترك استعمال شكل الشعر ، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه أبو عمرو في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحق ؛ اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين ، واتباعا للأئمة السالفين . الخليل
والشكل المدور يسمى نقطا لكونه على صورة الإعجام الذي هو نقط بالسواد . والشكل أصله التقييد والضبط . تقول : شكلت الكتاب شكلا ، أي قيدته وضبطته . وشكلت الدابة شكالا . وشكلت الطائر شكولا . والشكل الضرب المتشابه ، ومنه قوله تعالى : وآخر من شكله أزواج أي من ضربه . ومثله قول الرجل : ما أنت من شكلي ؛ أي من ضربي . والشكل المثل . وأشكل الأمر ؛ إذا اشتبه . والقوم أشكال ؛ أي أشباه .
وتقول : أعجمت الكتاب إعجاما ؛ إذا نقطته . وهو معجم ، وأنا له معجم . وكتاب معجم ومعجم ؛ أي منقوط . وحروف المعجم : الحروف المقطعة من الهجاء . وفي تسميتها بذلك قولان : أحدهما أنها مبينة للكلام ، مأخوذ [ ص: 23 ] ذلك من قولهم : أعجمت الشيء ؛ إذا بينته . والثاني أن الكلام يختبر بها ، مأخوذ ذلك من قولهم : عجمت العود وغيره ؛ إذا اختبرته .
وقال أبو بكر بن مجاهد في كتابه في النقط : الشكل سمة للكتاب ، كما أن الإعراب سمة لكلام اللسان . ولولا الشكل لم تعرف معاني الكتاب ؛ كما لولا الإعراب لم تعرف معاني الكلام . والشكل لما أشكل ، وليس على كل حرف يقع الشكل ، إنما يقع على ما إذا لم يشكل التبس . ولو شكل الحرف من أوله إلى آخره - أعني الكلمة - لأظلم ولم تكن فائدة ؛ إذ كان بعضه يؤدي عن بعض .
والشكل والنقط شيء واحد ، غير أن فهم القارئ يسرع إلى الشكل أقرب مما يسرع إلى النقط ؛ لاختلاف صورة الشكل ، واتفاق صورة النقط . إذ كان النقط كله مدورا ، والشكل فيه الضم والكسر والفتح ، والهمز ، والتشديد بعلامات مختلفة . وذلك عامته مجتمع في النقط . غير أنه يحتاج أن يكون الناظر فيه قد عرف أصوله . ففي النقط الإعراب ، وهو الرفع والنصب والخفض . وفيه علامات الممدود والمهموز ، والتشديد في الموضع الذي يجوز أن يكون مخففا ، والتخفيف في الموضع الذي يجوز أن يكون مشددا .
ثم ذكر أصولا من النقط . ثم قال : ففي نقط المصاحف المدور الرفع والنصب والخفض ، والتشديد ، والتنوين ، والمد والقصر . ولولا أن ذلك كله فيه ما كان له معنى . قال : وقد كان بعض من يحب أن يزيد في بيان النقط ، ممن يستعمل المصحف لنفسه ، ينقط الرفع والخفض والنصب بالحمرة ، وينقط الهمز مجردا بالخضرة ، وينقط المشدد بالصفرة . كل ذلك بقلم مدور . وهذا أسرع [ ص: 24 ] إلى فهم القارئ من النقط بلون واحد ، بقلم مدور . قال : وفي النقط علم كبير ، واختلاف بين أهله . ولا يقدر أحد على القراءة في مصحف منقوط ، إذا لم يكن عنده علم بالنقط ، بل لا ينتفع به إن لم يعلمه .
قال : جميع ما أورده أبو عمرو ابن مجاهد في هذا الباب صحيح بين لطيف حسن ، وبالله التوفيق .