فذهب [ ص: 185 ] واختلف الأولون في أنه هل يفيد الحصر بالمنطوق أو المفهوم ؟ الإمام الرازي ومن تبعه إلى الأول ، واستدل في " المطالب العالية " على أن الله خالق لأفعال العباد بقوله تعالى : { هو الله الخالق } قال : وهذا التركيب يفيد الحصر .
وذهب الغزالي وبعض الفقهاء إلى الثاني . قال الغزالي : وإنما أفاد الحصر ، لأن المبتدأ يجوز أن يكون أخص من الخبر أو مساويا ، ويمتنع أن يكون أعم لغة وعقلا ، فلا يجوز : الحيوان إنسان ، ولا : الزوج عشرة ، بل : الإنسان حيوان ، والعشرة زوج . والعرب لم تتبع إلا الصدق ، والمساوي يجب أن يكون محصورا في مساويه . والأخص محصورا في أعمه . وإلا لم يكن أخص ، ولا مساويا . قالوا : فلو لم تقتض الحصر لزم أن يكون المبتدأ أعم من الخبر ، وهو غير جائز . بيانه : أنا إذا قلنا : العالم زيد ، فالألف واللام ليست للجنس قطعا ولا للعهد ، فتعين . أن تكون لماهية العالم ، وتلك الماهية إما أن تكون موجودة في غير زيد أو لا ، فإن لم تكن انحصرت العالمية في زيد وهو المطلوب ، وإن كانت موجودة في غيره فتكون أعم من زيد ، وزيد أخص منها . وقد أخبرتم عنها فلزم الإخبار بالأعم عن الأخص ، كما ادعينا .
قيل : وهذا الدليل إنما يتم بجعل العالم مخبرا عنه . وزيد مخبرا به . أما لو جعل العالم خبرا مقدما على المخبر عنه ، فحينئذ لا فرق بين : العالم زيد ، وزيد العالم . ثم نقول : العالم زيد يفيد الحصر ، وأيضا لو جعل الألف واللام في العالم للمعهود ، وهي معنى الكامل والمشتهر في العالمية ، فحينئذ يفيد المبالغة ، ولا يفيد الحصر . هذا إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين ، وقد خيرنا فيهما ، أما إذا كان المبتدأ معرفة والخبر نكرة ، نحو : زيد قائم ، فلا حصر فيها قطعا ، فإنه لا ينحصر زيد في القيام قطعا .
وقال العبدري : ما ذكره الغزالي من أنه لا يجوز : صديقي زيد ، فليس [ ص: 186 ] بصحيح ، بل هو جائز ، ويكون المبتدأ لفظا خاصا لا عاما ، وإنما أوقعه في هذا الغلط كون الصداقة لفظا عاما . نعم ، هو عام إذا انفرد فلم يقع خبرا ولا مبتدأ ولا صفة ، فيقال : " صديقي " يصلح للخبرية عن واحد وعن أكثر ، فإذا وصف به موصوف أو أخبر به عن مبتدأ كان مفردا إذا كان المبتدأ أو الموصوف مفردا . فإن كان المبتدأ أو الموصوف مثنى أو جمعا كان هو كذلك ، ويدل عليه الضمائر المقدرة فيه ، فإنما تقدر على وفق من تعود عليه . مثاله : زيد صديقي هو ، والزيدان صديقي هما ، والزيدون صديقي هم .
وقال في أماليه : زعم ابن الحاجب إمام الحرمين أنك إن أخرت صديقي كانت الصداقة غير محصورة في زيد ، وإن قدمته كانت محصورة فيه ، وكلامه يشعر بأنه خبر في الجملتين جميعا . وقال غيره هذا القول ، وزعم أيهما قدم فهو المبتدأ . وقال قوم : باستواء التقديم والتأخير .
ووجه قوم قول الإمام : إن " صديقي " مقتض للخبرية ، لإفادته النسبة إلى زيد ، فإذا كان خبرا وأخرته لم يلزم الحصر لجواز أن يكون الخبر أعم ، كقولك : زيد عالم ، فإذا قدمته مع كونه خبرا فلم تقدمه إلا لغرض ، ولا غرض إلا قصد الحصر .
ووجه القول الثاني : أن المعرفتين إذا اجتمعا كان أسبقهما المبتدأ ، فإذا قلت : زيد صديقي ، فلا حصر لجواز عموم الخبر ، وإذا قلت : صديقي زيد أفاد الحصر ، لأن المبتدأ صديقي ، فلو قدرت الخبر عاما لم يستقم ، فلا بد من مطابقته ، وأن لا صديق سواه . قال : وليس القولان بقويين . ابن الحاجب
والدليل على القول الثالث : أن المعرفتين إذا اجتمعا فالمقدم هو المبتدأ [ ص: 187 ] مذكور في موضعه ، وحينئذ : فقولك : صديقي زيد أو زيد صديقي ، إما أن تريد بالصديق معهودا أو عموم الأصدقاء ، فإن قصد واحدا ، وقدم زيدا أو أخره فالمعنى واحد ، وإن قصد عموم الأصدقاء وقدم زيدا أو أخره ، وجب العموم . فإذا قلت : صديقي زيد ، أي إن كل صداقة لي محصورة في زيد ، أو زيد صديقي ، فزيد هو المخبر عنه ، لا صديق سواه ، وجب الحصر فيهما جميعا ، ولو سلم تعيين " صديقي " للخبرية كما قاله الإمام فالمعنى فيهما واحد ، فإنه إن أريد الخاص فلا عموم في التقديم أو التأخير أو أريد المعنى فالمعنى واحد ، قدم أو أخر . وإنما فهم التغاير لتنزيله منزلة : العالم زيد ، وليس هو نظيره .