الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                                        الخلطة تصح إذا كان كل واحد من الخليطين مخاطبا بالزكاة ، حرا ، مسلما ، له نصاب ، وحال عليه الحول . واختلف إذا كان أحدهما نصرانيا ، أو [ ص: 1047 ] عبدا ، فقال محمد : يزكي الحر المسلم وحده ملكه وحده ، كالانفراد لو لم يخالط أحدا . وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب : يزكي على الخلطة ، فما نابه أداه ، ويسقط ما ينوب النصراني والعبد ويختلف على هذا إذا كان لأحدهما نصاب قد حال عليه الحول ، والآخر له دون نصاب أو نصاب ولم يحل عليه الحول ، فعلى قول محمد : يزكي من له نصاب وحال عليه الحول زكاة الانفراد . وعلى قول عبد الملك : يزكي زكاة الخلطاء ، فما نابه على وجه الخلطة أداه ، ويسقط ما ينوب من له دون نصاب ، أو لم يحل عليه الحول ، وهو أحسن ؛ لأن الارتفاق بالخلطة قد وجد فلا يزكي زكاة الانفراد ، ومثله إذا كانت الغنم شركة وأحدهما نصرانيا أو عبدا وينوبه من الشركة دون نصاب ، أو كانت الشركة بأغنامهما وأحدهما محدث الكسب فتم حول أحدهما ، فيختلف : هل يزكي من توجه عليه الخطاب في نصيبه بمنزلة من لا شريك له أم لا ؟

                                                                                                                                                                                        ومن المدونة قال مالك : إذا كان جميع الأغنام تجب فيها الزكاة ، وليس في نصيب كل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة ، فتعدى المصدق فأخذ منها شاة ، أنها لا تكون على من أخذت من غنمه خاصة ، وهي على عدد الأغنام يترادان فيها على عدد غنمهم .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : وإذا كان جميع الغنم أربعين شاة بين أربعة نفر ، فأخذ منها الساعي شاة ، فإنه لا يخلو من أربعة أوجه : [ ص: 1048 ]

                                                                                                                                                                                        إما أن يكون ذلك مذهبه ، فإنهم يتراجعون فيها . وسواء كان عالما أنها بين أربعة ، أو يظن أنها لواحد ، وإن كان مذهبه : ألا زكاة فيها لما كان لكل واحد منهم دون نصاب ، وأخذها وهو عالم أنها بين أربعة ، كانت الشاة مظلمة ممن أخذت من غنمه . وإن كان يظن أنها لواحد تراجعوا فيها ؛ لأن اجتماعها أوجب الخطأ عليها ، ثم يختلف إذا كانت مختلفة العدد ، هل يتراجعون فيها على عدد الغنم ، أو على عدد المالكين ؟ وإن كان جميعها دون الأربعين كانت مظلمة ممن أخذت منه قولا واحدا .

                                                                                                                                                                                        وإن كان لأحدهما تسعة وثلاثون ولآخر ثلاثون ، فأخذ منها شاة ، عاد الجواب إلى ما تقدم في الأربعين . وينظر هل أخذ ذلك لأنه مذهب له ، أو على وجه الخطأ أو التعدي ؟ وإن كان جميعها سبعين : لأحدهما أربعون ، وللآخر ثلاثون ، فأخذ منها شاة ، كانت على صاحب الأربعين ، فإن أخذت من غنمه لم يكن على صاحبه شيء ، وإن أخذت من غنم صاحب الثلاثين رجع عليه بقيمتها ، وإن أخذ شاتين نظرت ؛ فإن أخذها من الأربعين لم يرجع على صاحبه بشيء ، وإن أخذها من الثلاثين رجع بواحدة ، وإن أخذ من غنم كل واحد واحدة ؛ فإن كانت التي أخذت من الأربعين مما يجزئ في الزكاة لم يرجع عليه صاحبه بشيء .

                                                                                                                                                                                        وإن كانت مما لا تجزئ والأخرى مما تجزئ رجع صاحب الثلاثين عليه بقيمتها . وهذا إذا ابتدأ بالأخذ من الثلاثين ، وإن ابتدأ بالأخذ من الأربعين لم [ ص: 1049 ] يكن عليه غيرها ، وسواء كانت مما تجزئ أم لا ؛ لأنه لما أخذها من الأربعين عاد إلى ما لا زكاة فيه فسقطت منها الزكاة ، ثم أخذ الثانية بعد سقوط الزكاة من الأولى ، فهي مظلمة منه .

                                                                                                                                                                                        ومثله إذا لم يكن منها شيء يجزئ فإنه لا تراجع بينهما ، ولا زكاة على صاحب الأربعين ؛ لأنه لم يفرط في زكاته حتى غصبت منه .

                                                                                                                                                                                        وإن كان لواحد مائة وعشرة من الغنم ، وللآخر إحدى عشرة شاة ، كانت فيها شاة على صاحب المائة وعشرة ، فإن أخذ منها شاتين عاد الجواب إلى ما تقدم ، فإن كان ذلك مذهبه تراجعا فيهما ، وسواء كان عالما أن فيها شركة أم لا ، وسواء أخذهما من غنم أحدهما أو من غنم كل واحد منهما شاة فإنهما يتراجعان . فإن كان مذهبه : أن لا شيء على صاحب الأحد عشر ، وعلم صفة الشركة ، وأخذها من غنم صاحب المائة وعشرة ، لم يرجع على صاحبه بشيء ، وإن كان أخذها من صاحب الأحد عشر رجع بواحدة ، وكانت الأخرى مظلمة منه ، وإن أخذ من كل واحد واحدة ، وكانت التي أخذت من الكثيرة تجزئ في الزكاة ، لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء ، وإن كانت لا تجزئ ، والتي أخذت من القليلة تجزئ ، كانت التي أخذت من الكثيرة مظلمة ويرجع عليه الآخر بقيمة شاته . وإن لم تكن فيها شاة تجزئ لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء ، وأخرج صاحب الكثيرة شاة أخرى مما تجزئ . [ ص: 1050 ]

                                                                                                                                                                                        وإن أخذهما الساعي وهو يرى أنهما لواحد ، ولو علم بصفة الشركة أخذ شاة ، كان فيها قولان : فقال محمد : يتحاصان في الشاتين على عدد أغنامهما . قال : لأنه رأي من ذهب إلى هذا ، وهو كحكم نفذ فلا يرد . وحكي عن ابن عبد الحكم أنه جعل واحدة من صاحب الكثيرة ويتراجعان في الأخرى على مائة جزء وأحد وعشرين جزءا ، يريد : لأن اجتماعهما أوجب الخطأ في الأخرى .

                                                                                                                                                                                        ويجري فيها قول ثالث : أن الثانية تكون عليهما نصفان قياسا على القول : إذا شهد أربعة بالزنى واثنان بالإحصان فرجم ، ثم رجع جميعهم بعد الحكم . فقيل : تكون ديته عليهم أسداسا . وقيل : نصفين ؛ لأن كل فريق يقول : لولا أنتم لم يرجم . فالقول : "إنها أسداس" موافق لقول ابن عبد الحكم : إنها تكون على العدد .

                                                                                                                                                                                        ومن المدونة ، قال مالك إذا كان لواحد تسعة من الإبل وللآخر خمسة كان على كل واحد منهما شاة ، ثم رجع فقال : يتراجعان في الشاتين على عدد إبلهما . ورأى أن الوقص داخل في الزكاة . والأول أحسن ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أوجب في خمس من الإبل شاة" ثم لم يجعل في الزائد شيئا ، فهو معفو عنه [ ص: 1051 ] ساقط الحكم .

                                                                                                                                                                                        ولو كان لأحدهما تسع وللآخر ست لكان فيها ثلاث شياه ، ويتراجعان في الثالثة قولا واحدا ، ويصح أن تنقل الخلطة الزكاة من الغنم إلى الإبل ، وذلك أن يكون لأحدهما خمس عشرة من الإبل وللآخر عشرة ، ففيها على الانفراد الغنم ، وعلى الخلطة بنت مخاض . ويصح أن تنقل أحدهما دون الآخر ، وذلك أن يكون لأحدهما خمس وعشرون من الإبل ، وللآخر عشرة ، فيزكيان على الخلطة بنت مخاض في خمس وثلاثين ، وعلى الانفراد صاحب العشرة شاتين ، وصاحب الخمس وعشرين بنت مخاض . والعشرة ها هنا لم تنقل عن السن الأول ، وتنقل عن سن إلى غيره .

                                                                                                                                                                                        ويصح أن تنقل الخلطة من عدد ما يجب على الانفراد ، وتنقل من سن إلى غيره . وذلك أن يكون لكل واحد خمس وعشرون من الإبل ، ففيها على الانفراد بنت مخاض ، وعلى الخلطة حقة .

                                                                                                                                                                                        وإذا كان لرجل خمسة وعشرون من الإبل فخالط بخمسة عشر رجلا له عشرة ، وبعشرة رجلا له عشرة ، فعليه فيها خمسة أتساع بنت لبون ، وهو معهما كخليط واحد .

                                                                                                                                                                                        واختلف في خليطيه على ثلاثة أقوال : فقيل : يزكي كل منهما على مثل ذلك ، فعلى كل واحد منهما تسعا بنت لبون ، ويصير ثلاثتهم في حكم رجل [ ص: 1052 ] واحد . وقيل : يزكي كل واحد منهم على جميع ملك خليطه دون خليط خليطه ، فيكون على كل واحد منهما سبعا بنت مخاض ؛ لأن له عشرة ولخليطه خمسة وعشرون فذلك خمس وثلاثون .

                                                                                                                                                                                        وقيل : يزكي كل واحد منهما على ما خالط به خليطه دون جميع ملكه ، فيزكي من خولط بخمسة عشر خمسي بنت مخاض ، ومن خولط بعشرة من الغنم عليه شاتان . وفي المبسوط قول رابع : إن صاحب الخمس وعشرين يزكي مع كل واحد على ما خالطه به خاصة ، ولا يجمع ملكه بعضه إلى بعض . ولو كان له عشرة أخرى لم يخالط بها أحدا كانت زكاته عنده على ثلاثة أوجه : فيزكي الخمسة عشر مع صاحب العشرة بثلاثة أخماس بنت مخاض ، والعشرة التي مع صاحب العشرة بشاتين ، ثم يزكي العشرة المنفردة بسبعي بنت مخاض ؛ لأن جميع ملكه خمس وثلاثون ، فيها بنت مخاض تنوب العشرة المنفردة سبعاها ، ويمضي ما سوى هذه العشرة على ما زكاه مع الخليطين . [ ص: 1053 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية