وأيضا ففي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=684598 "عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته ، فيقول الله عز وجل لملائكته : انظروا إلى عبدي ، ثار عن فراشه ووطائه من أهله وحيه إلى صلاته ، رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي . ورجل غزا في سبيل الله ، فانهزم مع أصحابه ، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع ، فرجع حتى يهريق دمه . فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى يهريق دمه" فهذا رجل انهزم هو وأصحابه ، ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعجب منه; [و]
nindex.php?page=treesubj&link=29682عجب الله من الشيء يدل
[ ص: 322 ] على عظم قدره ، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته .
وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي ، لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز; حتى يقال : وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه يقتل فترك ذلك أفضل .
بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه ، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يقتل فيه الرجل كثيرا أو غالبا ، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرم ، فإنه مع هذه التوبة جاهد هذه المجاهدة الحسنة .
قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=110ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687463 "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" .
فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله ثم هجر ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلا في هذه الآية . وقد يكون هذا في شريعتنا عوضا عما أمر به بنو إسرائيل في شريعتهم لما فتنوا بعبادة العجل بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=66ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم . . .
[ ص: 323 ]
وذلك يدل على أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة .
فإن قيل : قد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=65إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=66الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين . وقد قالوا : إن ما أمر به من مصابرة الضعف في هذه الآية ناسخ لما أمر به قبل ذلك من مصابرة عشرة الأمثال .
قيل : هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف ، ليس في الآية أن ذلك لا يستحب ولا يجوز .
وَأَيْضًا فَفِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=684598 "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ : رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ مِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ : انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحَيِّهِ إِلَى صَلَاتِهِ ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي . وَرَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَانْهَزَمَ مَعَ أَصْحَابِهِ ، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الِانْهِزَامِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ ، فَرَجَعَ حَتَّى يُهَرِيقَ دَمُهُ . فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي حَتَّى يُهَرِيقَ دَمُهُ" فَهَذَا رَجُلٌ انْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَحْدَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ .
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ مِنْهُ; [وَ]
nindex.php?page=treesubj&link=29682عَجَبُ اللَّهِ مِنَ الشَّيْءِ يَدُلُّ
[ ص: 322 ] عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِ ، وَأَنَّهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ يُعَظِّمُ دَرَجَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ مَرْضِيٌّ ، لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ; حَتَّى يُقَالَ : وَإِنْ جَازَ مُقَاتَلَةُ الرَّجُلِ حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ فَتَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلُ .
بَلِ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ هَذَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ يُقْتَلُ فِيهِ الرَّجُلُ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَوْبَتِهِ مِنَ الْفِرَارِ الْمُحَرَّمِ ، فَإِنَّهُ مَعَ هَذِهِ التَّوْبَةِ جَاهَدَ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةَ الْحَسَنَةَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=110ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687463 "الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" .
فَمَنْ فَتَنَهُ الشَّيْطَانُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَجَاهَدَ وَصَبَرَ كَانَ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِي شَرِيعَتِنَا عِوَضًا عَمَّا أُمِرَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي شَرِيعَتِهِمْ لَمَّا فُتِنُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=66وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ . . .
[ ص: 323 ]
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّائِبَ قَدْ يُؤْمَرُ بِجِهَادٍ تُعَرَّضُ بِهِ نَفْسُهُ لِلشَّهَادَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=65إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=66الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ . وَقَدْ قَالُوا : إِنَّ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مُصَابَرَةِ الضِّعْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَاسِخٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ مُصَابَرَةِ عَشَرَةِ الْأَمْثَالِ .
قِيلَ : هَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْمُصَابَرَةُ لِمَا زَادَ عَلَى الضِّعْفِ ، لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجُوزُ .