الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار بالحصباء

                                                                                                                                                                                                                              قال الله سبحانه وتعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال : 17] قال محمد بن عمر الأسلمي : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ من الحصباء كفا ، فرمى به المشركين [ ص: 48 ] وقال : «شاهت الوجوه ، اللهم أرعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم» .

                                                                                                                                                                                                                              فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء ، وألقوا دروعهم ، والمسلمون يقتلونهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «شاهت الوجوه» فانهزم القوم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم بسند حسن ، عن حكيم بن حزام ، قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة وقال : «شاهت الوجوه» فانهزمنا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الشيخ وأبو نعيم وابن مردويه ، عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست ، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن وجوه المشركين فانهزموا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني وأبو الشيخ برجال الصحيح ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي : «ناولني قبضة من حصباء» فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار ، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس ، والأموي عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال له جبريل : خذ قبضة من تراب فارم بها في وجوههم ، فما بقي من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه ، فولوا مدبرين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «احملوا» فلم تكن إلا الهزيمة ، فقتل الله من قتل من صناديدهم وأسر من أسر ، وأنزل الله تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال : 17] .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عقبة وابن عائذ : فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها ، لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه ، وجعل المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ، وبادر كل رجل منهم منكبا على وجهه لا يدري أين يتوجه ، يعالج التراب ينزعه من عينيه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : فكانت الهزيمة ، فقتل الله من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أشرافهم ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش متوشحا بالسيف ، في نفر من الأنصار يحرسونه [ ص: 49 ] يخافون كرة العدو ، وسعد بن معاذ رضي الله عنه قائم على باب العريش متوشح بالسيف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي عن الزهري : «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» فأسره جبار بن صخر ، ولقيه علي فقتله ، وقتل علي أيضا العاص بن سعيد ، ثم قال : من له علم بنوفل ؟ فقال علي : أنا قتلته ، فقال : «الحمد لله الذي أجاب دعوتي منه» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ -فيما ذكر ابن إسحاق- لبعض أصحابه : «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، لا حاجة لهم بقتالنا . فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله» -وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض الصحيفة- «ومن لقي منكم العباس بن عبد المطلب فلا يقتله ، فإنما خرج مكرها» فقال أبو حذيفة رضي الله عنه : «أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ، ونترك العباس ، والله لئن لقيته لألجمنه السيف» فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب : «يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ؟ !» فقال عمر : «يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف -يعني أبا حذيفة رضي الله عنه- فوالله لقد نافق» فكان أبو حذيفة يقول : «ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا أزال خائفا منها ، إلا أن تكفرها عني الشهادة» فقتل يوم اليمامة شهيدا ، قال عمر : «والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص» .

                                                                                                                                                                                                                              ولقي المجذر بن زياد البلوي أبا البختري ، فقال له : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك» ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة وهو جنادة بن مليحة ، وقال : وزميلي ؟ فقال له المجذر : لا والله ما نحن بتاركي زميلك ، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك ، قال : لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا ، لا تحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة ، فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبي إلا القتال :


                                                                                                                                                                                                                              لن يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله



                                                                                                                                                                                                                              فاقتتلا فقتله المجذر ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته .


                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عقبة : ويزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري ، ويأتي عظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله ، بل الذي قتله غير شك أبو داود المازني وسلبه سيفه ، وكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض ولد أبي البختري . [ ص: 50 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية