وقد عيسى عن الخلافة للمهدي على خمسة أقوال: اختلفوا في نزول
أحدها: أنه قيل إنما يحب للمنصور: عيسى الخلافة لولده ، فلو أوهمته قتله لنزل عن الخلافة فأخذ ولده بحضرته وقال للربيع: اخنقه فلف حمائل سيفه على حلقه توهم أنه يخنقه . فلما رأى عيسى الجد قال: أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار ، وكل ما أملك في سبيل الله ، وهذه يدي بالبيعة للمهدي .
والثاني: أن الجند كانوا يؤذون عيسى إذا ركب ويسبونه ، فشكاهم إلى ، فقال إنهم قد أشربوا حب هذا الفتى ، فبايع حينئذ المنصور للمهدي . [ ص: 105 ]
والثالث: أنه ذهب إليه ثلاثون نفسا ، فسألوه أن ينزل عن الخلافة ، فلم يفعل ، فخرجوا فأخبروا أنه قد نزل وشهدوا عليه بذلك ، فكتب بذلك إلى المنصور الأنبار ، فلما أنكر شهدوا عليه .
والرابع: أن سالم بن قتيبة أشار عليه بذلك فقبل منه .
والخامس: أنه بذل له مال فخرج إلى الناس ، فقال: قد بعت نصيبي من مقدمة ولاية العهد من أمير المؤمنين لابنه بعشرة آلاف ألف درهم وثلاثمائة ألف بين يدي ولدي فلان وفلان وسبعمائة ألف من فلانة - امرأة من نسائه - بطيب نفس مني ، لأنه أولى بها مني وأحق ، فما أدعيه بعد يومي هذا فإني فيه مبطل . وكساه المهدي أبو جعفر وكسا أولاده بقيمة ألف ألف درهم ومائتي ألف درهم ، وكان ولاية عيسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة ، حتى عزل محمد بن سليمان حين امتنع من تقديم على نفسه . المهدي
وقال المنصور للمهدي لما عهد إليه: يا أبا عبد الله ، استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو ، والطاعة بالتألف ، والنصر بالتواضع ، ولا تبرم أمرا حتى تفكر فيه ، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه . واعلم أنه لا يصلح السلطان إلا بالتقوى ، ولا يصلح رعيته إلا بالطاعة ، ولا تعمر البلاد بمثل العدل ، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال ، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة ، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه ، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره ، ومن أحب الحمد أحسن السيرة ، وليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه ، ولكن هو الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه .
وقال له يوما: كم دابة عندك؟ قال: لا أدري . قال: هذا والله التضييع ، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا .