الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

932 - إسماعيل بن زكريا بن مرة ، أبو زياد الخلقاني ، مولى أسد بن خزيمة يلقب شقوصا .

كوفي الأصل ، سمع إسماعيل بن أبي خالد ، وأبا إسحاق والأعمش وغيرهم وكان ثقة .

أخبرنا القزاز قال: أخبرنا [أبو بكر] ابن ثابت قال: أخبرني الأزهري قال: [ ص: 346 ]

حدثنا محمد بن عباس قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا [الحسين] بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال إسماعيل بن زكريا: كان تاجرا في الطعام وغيره ، وهو من أهل الكوفة ، نزل بغداد في ربض حميد بن قحطبة ومات بها في أول سنة ثلاث وسبعين ومائة ، وهو ابن خمس وستين سنة .

933 - الخيزران جارية المهدي .

اشتراها فأعتقها وتزوجها ، فولدت له الهادي والرشيد ، ولم تلد امرأة خليفتين غير ثلاث نسوة هي إحداهن ، والثانية ولادة العنسية بنت العباس زوجة عبد الملك بن مروان أم الوليد وسليمان ، والثالثة: شاهقيريذ بنت فيروز بن يزدجرد ولدت للوليد بن عبد الملك إبراهيم ويزيد فوليا الخلافة .

وقد أسندت الحديث ، عن المهدي ، عن أبيه ، عن جده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اتقى الله وقاه الله كل شيء" .

أخبرنا أحمد بن علي المحلي قال: أخبرنا أبو محمد الصريفيني قال: أخبرنا أبو القاسم الصيدلاني قال: حدثنا علي بن محمود الكاتب قال: حدثنا أبو الحسن علي بن الحسين الطويل قال: حدثني هارون بن عبيد الله بن المأمون قال: لما عرضت الخيزران على المهدي قال لها: والله يا جارية إنك لعلى غاية التمني ، ولكنك خمشة الساقين ، فقالت يا مولانا ، إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما ، فقال اشتروها فحظيت عنده ، فأولدها موسى وهارون .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي ابن ثابت قال: أخبرني الأزهري والحسن بن أبي طالب وأنبأنا أحمد بن علي بن المقرئ قال: أخبرنا أبو محمد الصريفيني قالوا: حدثنا عبيد الله بن أحمد بن علي المقري قال: حدثنا علي بن [ ص: 347 ] محمد بن أبي الجهم قال: حدثني علي بن الطويل قال: حدثني سليمان بن محمد ، عن الواقدي قال: دخلت يوما إلى المهدي فدعا بمحبرته ودفتره ، وكتب عني أشياء حدثته بها ، ثم نهض وقال: كن بمكانك حتى أعود إليك ، ودخل إلى دار الحرم ثم خرج متنكرا ممتلئا غيظا ، فلما جلس: قلت يا أمير المؤمنين خرجت على خلاف الحال التي دخلت عليها؟ قال: نعم دخلت على الخيزران فوثبت إلي ومدت يدها إلي وخرقت ثوبي ، وقالت: يا قشاش ، وأي خير رأيت منك؟ وإنما اشتريتها من نخاس ورأت مني ما رأت وعقدت لابنيها ولاية العهد ويحك وأنا قشاش؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام" وقال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" ، وقال: "خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته" . وحدثته في هذا الباب بكل ما حضرني ، فسكن غضبه ، وأسفر وجهه ، وأمر لي بألفي دينار ، وقال: أصلح بهذه من حالك ، وانصرفت ، فلما وصلت إلى منزلي وافاني رسول الخيزران ، فقال: تقرأ عليك ستي السلام ، وتقول لك: يا عم قد سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين ، فأحسن الله جزاك ، وهذه ألفا دينار إلا عشرة دنانير بعثت بها إليك لأني لم أحب أن أساوي صلة أمير المؤمنين ووجهت إلي بأثواب .

أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن علي البسري ، عن أبي عبد الله بن بطة قال: حدثنا أبو علي بن الحسين بن القاسم قال: حدثنا أبو الفضل بن الربعي قال:

حدثني أبي قال: سأل رجل الخيزران حاجة ثم أرسل إليها بهدية فأجابته: إن كان ما وجهت به من هديتك ثمنا لرأيي فيك فلقد بخستني القيمة ، وإن كان استزادة فقد استغششتني في المودة وردتها عليه .

وقد حكى نحوه أبو بكر الصولي فقال: لما ولي محمد بن سليمان البصرة أهدى إلى الخيزران مائة وصيف بيد كل وصيف جام من ذهب مملوء مسكا . فقبلت ذلك ، وكتبت إليه: عافاك الله ، إن كان ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك ، فقد بخستنا في القيمة ، وإن كان وزن مثلك إلينا فظننا بك فوقه .

قال ابن الأعرابي: كتب المهدي إلى الخيزران وهي بمكة: [ ص: 348 ]


نحن في أفضل السرور ولكن ليس إلا بكم يتم السرور     عيب ما نحن فيه من أهل ودي
أنكم غيب ونحن حضور     فأجدوا في السير بل إن قدرتم
أن تطيروا مع الرياح فطيروا

فأجابته ، أو قالت لمن أجابه:


قد أتانا الذي وصفت من الشوق     فكدنا وما فعلنا نطير
ليت إن الرياح كن تؤدين     إليكم ما قد يجن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي     في سرور فدام ذاك السرور

توفيت الخيزران ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة ، ودفنت بمقابر قريش .

وروى يحيى بن الحسن أن أخاه حدثه قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران وعليه طيلسان أزرق قد شد به وسطه وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يعدو في الطين حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه ودعا بخف ، فصلى عليها ودخل قبرها ، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه ، ودعا الفضل بن الربيع وقال له: وحق المهدي - وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد - إني لأهم بالشيء لك من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها ، فخذ الخاتم من جعفر وولي الفضل نفقات العامة والخاصة وبادوريا والكوفة ، فتمت حاله ، وانصرف الرشيد من جنازتها يتمثل بقول متمم بن نويرة:


كنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن تتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وكانت غلة الخيزران ألف ألف وستين ألف درهم ، فاتسع الرشيد بغلتها وأقطع الناس من ضياعها .

934 - سعد بن عبد الله بن سعد ، أبو عمر المعافري .

روى عنه عبد الله بن وهب ، ويقال هو الذي أعان ابن وهب على تصنيف كتبه ، وكانت له عبادة وفضل . توفي بالإسكندرية في هذه السنة . [ ص: 349 ]

935 - عبد الرحمن بن أبي الموالي ، ويقال: ابن زيد ابن أبي الموالي ، أبو محمد المدني ، مولى علي بن أبي طالب ، وقيل: مولى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدث عن محمد بن كعب القرظي ، وابن المنكدر ، روى عنه: الثوري ، وابن المبارك ، وأبو عامر العقدي ، والقعنبي ، وقتيبة ، وكان ثقة .

وتوفي في هذه السنة .

936 - غادر جارية الهادي .

حكى جعفر بن قدامة قال: كان لموسى الهادي جارية يقال لها: غادر ، وكانت من أحسن النساء وجها وغناء ، وكان يحبها حبا شديدا ، فبينا هي تغنيه يوما عرض له فكر وسهو تغير له لونه ، فسأله من حضر عن ذلك ، فقال: وقع في فكري أني أموت ، وأن أخي هارون يلي الخلافة ويتزوج جاريتي هذه ، فقيل له: نعيذك بالله ، ونقدم الكل قبلك ، فأمر بإحضار أخيه وعرفه بما خطر له فأجابه بما يوجب زوال هذا الخاطر ، فقال: لا أرضى حتى تحلف لي إني متى مت لم تتزوجها . فأحلفه واستوفى عليه الأيمان من الحج راجلا ، وطلاق نسائه ، وعتق المماليك ، وتسبيل ما يملكه ، ثم نهض إليها فأحلفها بمثل ذلك فما لبث إلا نحو شهر حتى توفي ، وولي الرشيد فبعث يخطب الجارية ، فقالت: كيف يميني ويمينك؟ فقال: أكفر عن الكل وأحج راجلا ، فتزوجها وزاد شغفه بها على شغف أخيه حتى إنها كانت تضع رأسها على حجره وتنام ولا يتحرك حتى تنتبه ، فبينا هي ذات يوم على ذلك انتبهت فزعة تبكي ، فسألها عن ذلك ، فقالت:

رأيت أخاك الساعة وهو يقول:


أخلفت وعدي بعد ما جاورت سكان المقابر     ونسيتني وحنثت في أيمانك الكذب الفواجر
ونكحت غادرة أخي صدق الذي سماك غادر     أمسيت في أهل البلاد وغدوت في حور الغرائر
لا يهنك الإلف الجديد ولا تدر عنك الدوائر     ولحقت بي قبل الصباح فصرت حيث غدوت صائر

[ ص: 350 ] والله يا أمير المؤمنين فكأني لما سمعتها كتبها في قلبي فما أنسيت منها كلمة ، فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام ، فقالت: كلا . ثم لم تزل تضطرب وترتعد حتى ماتت بين يديه . 937 - محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي

أمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب [رضي الله عنهم] .

كان من رجال بني هاشم وشجعانهم ، وكان قد ولاه المنصور البصرة والكوفة ، وزوجه المهدي بابنته العباسة ، ونقلها إليه إلى البصرة ، وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله ، فسقط ليلة من يده [ليلة بنائه بالعباسة] فجعلوا يطلبونه فلم يجدوه ، فقال: أطفئوا الشمع ففعلوا فرأوه ، وكان له خمسون ألف مولى منهم عشرون ألف عتاقة ، وكانت به رطوبة فكان يتداوى بالمسك يستعمل منه كل يوم عشرين مثقالا ويتركه في عكن بطنه ، وأقره على ولايته الهادي والرشيد ، وكانت غلته كل يوم مائة ألف درهم .

وروي عنه حديث مسند لا يعرف له غيره .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل المستملي قال:

حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا العباس بن أبي طالب قال: حدثنا سلمة بن حيان العتكي قال: حدثنا صالح الناجي ، عن محمد بن سليمان قال: حدثني أبي ، عن جدي الأكبر - يعني ابن عباس - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "امسح على رأس اليتيم هكذا إلى مقدم رأسه ومن له أب هكذا إلى مؤخر رأسه" .

أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري قال:

حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: لما بويع الرشيد بالخلافة قدم عليه محمد بن سليمان وافدا ، فأكرمه وعظمه وبره وصنع به ما لم يصنع [ ص: 351 ] بأحد ، وزاده فيما كان يتولى من أعمال البصرة وكور دجلة والأعمال المفردة والبحرين وعمان واليمامة ، وكور الأهواز وكور فارس ، ولم تجمع هذه لأحد غيره ، فلما أراد الخروج شيعه الرشيد إلى كلواذى .

وتوفي في جمادى الآخر من هذه السنة ، وسنه إحدى وخمسون سنة وخمسة أشهر ، وأمر الرشيد بقبض أمواله .

وذكر ابن جرير: أن الرشيد بعث رجلا يصطفي ما خلفه من الصامت ، ورجلا إلى الكسوة ، و[ولي] الفرش والرقيق والدواب والطيب والجوهر ، فجعل لكل آلة رجلا يصطفيها ، فأصابوا له ستين ألف ألف ، وأخرج من خزانته ثيابه التي كان يلبسها كل سنة في زمن الصغر وأخرجوا ما كان يهدى إليه من البلاد حتى الدهن والسمك ، فوجدوا أكثر ذلك فاسدا ، فألقي في الطريق فأنتنت الطريق .

وحكى الصولي: أن الرشيد قبض ما خلفه محمد بن سليمان من المال فكان ثلاثة آلاف ألف دينار ، ولم يتعرض للضياع ولا الدور ولا المستغلات ولا الجوهر ولا الفرش ولا العطر ولا الكسوة .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الطبري قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا أبو صفوان [قال: حدثنا أبو بكر بن عبيد] قال:

حدثني أبو محمد العتكي قال: حدثني الحسين بن سلام مولى آل سليمان بن علي] قال: لما احتضر محمد بن سليمان بن علي كان رأسه في حجر أخيه جعفر بن سليمان ، فقال جعفر: وانقطاع ظهراه ، فقال محمد: وانقطاع ظهر من يلقى الجبار غدا [والله] ليت أمك لم تلدني ، ليتني كنت حمالا ، وأني لم أكن فيما كنت فيه ، وولى الرشيد مكانه عمه سليمان بن أبي جعفر .

وحكى ابن جرير أن قوما قالوا: كانت وفاة محمد بن سليمان والخيزران في يوم واحد .

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا [ ص: 352 ] محمد بن عبد الواحد قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: بلغني أن جارية من جواري محمد بن سليمان وقفت على قبره فقالت:


أمسى التراب لمن هويت مبيتا     ألق التراب فقل له حييتا
إنا نحبك يا تراب وما بنا     إلا كرامة من عليه حثيتا

938 - هيلانة جارية الرشيد .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا [أحمد بن علي بن ثابت] الخطيب قال:

أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: حدثنا الأصمعي قال: كان الرشيد شديد الحب لهيلانة ، وكانت قبله ليحيى بن خالد بن برمك ، فدخل يوما إلى يحيى قبل الخلافة فلقيته في ممر فأخذت بكمه فقالت: نحن لا يصيبنا منك يوم ، فقال لها: فكيف السبيل إلى ذلك ، فقالت: تأخذني من هذا الشيخ ، فقال ليحيى: أحب أن تهب لي فلانة فوهبها له حتى غلبت عليه ، وكانت تكثر أن تقول: هي ، إلا أنه ، فسماها هيلانة ، فأقامت عنده ثلاث سنين ثم ماتت ، فوجد عليها وجدا شديدا وأنشد:


قد قلت لما ضمنوك الثرى     وجالت الحسرة في صدري
اذهب فلا والله لا سرني     بعدك شيء آخر الدهر

أخبرنا القزاز قال: أخبرنا [أحمد بن علي بن ثابت] الخطيب قال: أخبرنا الأصبهاني قال: أخبرنا العسكري عن أبي بكر الصولي قال: أخبرنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: لما توفيت هيلانة جارية الرشيد أمر العباس بن الأحنف أن يرثيها فقال:


يا من تباشرت القبور بموتها     قصد الزمان مساءتي فرماك
أبغي الأنيس فلا أرى لي مؤنسا     إلا التردد حيث كنت أراك
ملك بكاك وطال بعدك حزنه     لو يستطيع بملكه لفداك
[ ص: 353 ] يحمي الفؤاد عن النساء حفيظة     كيلا يحل حمى الفؤاد سواك

فأمر له بأربعين ألف درهم لكل بيت عشرة آلاف وقال: لو زدت لزدناك .

الخاتمة ، تم الجزء الثامن من كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي غفر الله له .

يتلوه في الجزء التاسع:

التالي السابق


الخدمات العلمية