وركب الوزير وفي هذا الشهر: حلف الملك للخليفة يمينا حضرها المرتضى وقاضي القضاة ابن ماكولا وغيرهما ، أبو القاسم من غد إلى دار الخلافة ، فحضر عنده [ ص: 227 ] وحضر وقاضي القضاة ، فحلف الملك فكان فيها: "أقسم المرتضى عبد الله أبو جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين ، فقال: والله الذي لا اله إلا هو الطالب الغالب المدرك المهلك عالم السر والعلانية ، وحق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وحق القرآن العظيم والآيات والذكر الحكيم لأقيمن لركن الدولة جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة أبي نصر على إخلاص النية والصفاء ولألتزمن له شروط الموافقة والوفاء من غير إخلال بما يصلح حاله ، ويحفظ عليه مكانه ولأكونن له على أفضل ما يؤثره من حراسته في نفسه ، وما يليه ولوزير الوزراء أبي القاسم وسائر حاشيته وإقراره على رتبته وله علي بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذه على ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ، والله شهيد على ذلك وهذه اليمين يميني ، والنية فيها نية جلال الدولة أبي طاهر " . وذلك في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة .
وفي عشية يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الأولى: عند تصويب الشمس للغروب انقض كوكب كبير الجرم كثير الضوء ، وعاد في هذا الوقت أمر العيارين فاشتد وتجدد القتال بين العوام ، ثم ولي ابن النسوي ، فردعهم ردعا تاما .
وفي نصف رجب: عصفت ريح شديدة ثلاثة أيام متصلة ليلا ونهارا واحتجبت منها السماء والشمس ، ورمت ترابا أحمر ورملا .
وفي هذا الشهر: زادت الأسعار ، ووردت الأخبار بتلف الغلات في الموصل وأنه لم ترجع البذور في كثير من النواحي ، وكذلك الأهواز وواسط ، ووردت الأخبار عن الأحساء وتلك البلاد أن الأقوات عدمت ، فاضطر أهل بادية كانوا فيها إلى أكل مواشيهم ثم أولادهم ، وكان الواحد يعارض بولده ولد غيره كيلا تدركه رقة في ذبحه وأكله ، وفارق أهل البوادي منازلهم .
وفي ليلة الاثنين ثاني شوال: انقض كوكب أضاءت منه الأرض وارتاع له الناس ، وكان في شكل ولم يزل يتقلب حتى اضمحل . [ ص: 228 ]
وفي يوم الأربعاء حادي عشر شوال: نزل الملك أبو طاهر من داره على سكر وانحدر في سميرية بمنكور إلى دار الخلافة ، ومعه ثلاثة نفر من حواشيه ، وصعد إلى بستان الدار ، ورمى بعض معيناته القصب ودخله ، ثم جلس تحت شجرة واستدعى نبيذا فشربه ، وأمر الزامر أن يزمر فزمر ، وعرف الخليفة ذلك فشق عليه وأزعجه وغلقت أبواب الدار على وجه الاستظهار ، ثم خرج إليه القاضي أبو علي ابن أبي موسى ، وأبو منصور بن بكران الحاجب ، فخدماه ووقفا بين يديه وقالا له: قد سر مولانا السلطان قرب مولاه وانبساطه ، وأما النبيذ والزمر فإنهما مما لا يجوز في هذا الموضع ، فلم يقبل ولا امتنع ، وقال لأبي منصور بن بكران: قل لمولانا أمير المؤمنين أنا عبدك ، وقد حصل وزيري أبو سعد في دارك ووقف أمري بذلك ، وأريد أن يتقدم بتسليمه إلي ، فأراد أبو منصور أن يجيبه فزبره ، وقال له: ليس الخطاب معك ولا الجواب عليك ، وإنما أنت رسول ، فامض وأعد ما قيل لك: فمضى وعاد بجواب يقال فيه: ما نعلم أن الوزير في دارنا ولا ها هنا امتناع عليك مما يؤدي إلى صلاح أمرك ، فرده . وقال: أريد جوابا محصلا بفعل أو منع ، فعاد وقال: الأمر يجري على ما تؤثره ، فقال للمختص أبي غانم:
أشهد عليهم بأنهم يسلمون وزيري ، فقال له: الأمر لك ، وجعلوا يدارونه حتى نزل إلى زبزبه ، وأصعد إلى داره ، واجتمع من العامة على دجلة خلق كثير يهزءون بالقول ويخرجون إلى الحرق ومعهم سيوف وسكاكين مستورة ، فلما كان من الغد استدعى الخليفة المختص أبا غانم ، والقائد أبا الوفاء وقال لهما: قد عرفتما ما جرى أمس وإنه أمر زاد على الحد وتناهى في القبح وقابلناه بالاحتمال والحلم وكان الأولى بجلال الدولة أن يتنزه عن فعله وينزهنا عن مثله ويتخلق بأخلاق آبائه في مراعاة الخدمة والتزام الحشمة ، ويكفي ما نحن محملوه من مجاري الأفعال المحظورة ومتحملوه فيها من سوء السمعة والأحدوثة ، فإن جرائر ذلك متعلقة بنا وأوزاره متعدية إلينا ، إذ كانت هذه الأمور معصوبة بنا ، وإنما فوضناها إلى جلال الدولة إحسانا للظن به ، واعتقادا للجميل فيه ، وليس من حقوق ذلك وما نفضي عليه من الأسباب المذكورة ، ونتجرعه فيها من المرارة الشديدة ، أن يرتكب معنا هذه المراكب المستنكرة ويجترئ علينا هذه الجرآت المستمرة ، ونعامل حالا بعد حال ، ووقتا بعد وقت بما يفارق فيه المراقبة والمجاملة ، [ ص: 229 ] وكيف كانت الصورة تكون لو جرى من ذلك الجمع نادرة غلط ، وهل كان الفائت يستدرك ، والآن فإما رجع معنا إلى الأولى وسلك الطريق المثلى ، وإلا فارقنا هذا البلد ودبرنا أمورنا بما يجب .
فقبلا الأرض وأقاما بعض العذر ومضيا إلى الملك فأوردا عليه ما سمعاه ، واعتذارهما عنه ، فركب يوم الجمعة في زبزبه ، وأشعر الخليفة بحضوره للاعتذار ، فنزل إليه عميد الرؤساء أبو طالب بن أيوب [وخدم] وقال له: تذكر حضوري للخدمة وتجديد الاعتذار من تلك الخرمة التي لم تكن بإرادة ، ووقف حتى رجع بجواب يدل على قبول العذر وشكر ما استونف من الفعل ، ثم يمم إلى الميدان بالحلبة ، ولعب فيه بالصولجان وعاد في زبزبه .
وفي ليلة الجمعة لخمس خلون من ذي القعدة: نقل تابوت من دار الخلافة إلى التربة بالرصافة ، واختير هذا الوقت لأجل حضور حاج القادر بالله خراسان في البلد ، واجتمع الأكابر وعليهم ثياب التعزية ، وحمل التابوت إلى الطيار ، ثم حمل من مشرعة باب الطاق على أعناق الرجال إلى التربة والجماعة مشاة بين يديه .
وصح عند الناس عدم المياه في طريق مكة والعلوفة فتأخروا وحضر الناس يوم الموكب لخمس بقين من هذا الشهر فأظهر أن أبا الحسن علي بن ميكائيل الوارد من خراسان قد بذل إطلاق ألفي دينار تنفق على طريق مكة فرد الخبر على الخليفة ذلك وأطلقه من خزانته ، وخلع على ابن الأقساسي لتقلده النيابة عن في الحج . المرتضى
وورد الكتاب من البصرة بما جرى على حاج البصرة من أخذ العرب لهم على ثلاثة أيام من البصرة ، وأنهم نهبوا وسلبوا وجاعوا ، فبعث إليهم الوزير أبو الفرج ابن فسانجس جمالا وزادا وتمرا لحملهم ومعاونتهم .