[ ص: 233 ] ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها:
أن الخليفة هنئ بدخول الحمام من جدري ظهر به ، وكتم الأمر فيه إلى أن برأ ، وذلك في المحرم .
وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر كبس البرجمي العيار درب أبي الربيع ووصل إلى مخازن فيها مال عظيم ، وتفاوض الناس أن جماعة من الإصبهلارية خرجوا إليه وآكلوه وشاربوه ، فظهر من خوف الخلق منه ما أوجب نقل الأموال إلى دار الخليفة ، وواصل الناس المبيت في الدروب والأسواق للتحفظ ، وزيد في حرس دار الخلافة ، وطيف وراء السور وقتل صاحب الشرطة بباب الأزج غيلة ، واتصلت العملات ، وكبست دار تاجر فأخذ منها ما قيمته عشرة آلاف دينار ، وزادت المخافة من هذا العيار حتى صار أهل الرصافة وباب الطاق ، ودار الروم لا يتجاسرون على ذكره إلا أن يقولوا القائد أبو علي لئلا يصل إليه منهم غير ذلك ، وشاع عنه أنه لا يتعرض لامرأة ولا يمكن من أخذ شيء معها أو عليها .
وفي ربيع الأول: خرج جماعة من القواد والإصبهلارية في طلب هذا [ ص: 234 ] عند زيادة أمره وتعاظم خطبه واتصال فساده ، فنزلوا الأجمة التي يأوي إليها وهي أجمة ذات قصب وماء كثير تمتد خمسة فراسخ ، وفي وسطها تل قد جعله معقلا ومنزلا ، فترتب كل واحد من الإصبهلارية على باب من أبوابها ، فخرج إليهم البرجمي في ركاء وعلى رأسه غلامه ، وقال لهم: من العجب خروجكم إلي وأنا كل ليلة عندكم ، فإن شئتم أن ترجعوا وأدخل إليكم فعلت ، وإن شئتم أن تدخلوا إلي فافعلوا ، فذكر أن قوما منهم راسلوه وقووا نفسه ، وأروه أنهم يردون العسكر عنه . البرجمي
وفي جمادى الأولى: كثرت العملات والكبسات ، ووقع القتال في القلائين وعلى القنطرتين ، وعاد الاختلاط ، وطرحت النار فاحترق شيء عظيم وأسواق ومساجد وغيرها ، ووقع النهب في درب عون ، وأخذت أبوابه ودرب القراطيس إلى نهر الدجاج .
وفي هذه الأيام: تغيرت قلوب الجند ، فقدم الوزير أبو القاسم فظنوا أن وروده للتعرض بأموالهم ونعمهم ، واستوحشوا وأنكروا ورود الوزير من غير إجماع منهم ولا استقرار قاعدة معهم في أمره ، وأظهر المطالبة بما أخذه الملك من مال بادرويا ، فجاءت منهم جماعة إلى باب دار السلطان وصاحوا وجلبوا وأخذوا دواب من كان هناك ، وانزعج الوزير ومن معه من الأكابر وبادروا الدخول إلى صحن الدار مبادرة ازدحموا فيها ، وانقضى ذلك اليوم واجتمعوا من غد في مسجد القهرمانة وتكلموا في إهمال السلطان لأمورهم وأخذ أموالهم ، وعقدوا آراءهم على مراسلة الملك بتسليمه أقواما من أصحابه وخروجه من بغداد إلى واسط أو البصرة وإقامة أحد أولاده الأصاغر عندهم ، ثم انفصلت طائفة منهم فاجتازوا على دار المملكة ، فإذا باب البستان مفتوح فدخلوا بدوابهم ، فعرف الملك فخرج من دور الحرم إليهم ، فرأوه فتراجعوا قليلا فأطاف بهم غلمان الدار والحواشي ، فأمرهم بالانصراف فتبعه أحد خواصه فضربه بآجرة فرجع ومشى وحده إلى القوم ، وقال لهم: تعالوا حتى أسمع كلامكم وأنظر ما تريدون ، فأحاطوا به وأخذوه وأخرجوه إلى دجلة وهم لا يدرون ما يفعلون ، لأن الذي جرى منهم لم يكن على أصل ولا اتفاق ، وإنما كان تخليطا ، وأنزلوه سميرية فلما حصل فيها قال بعضهم [ ص: 235 ] لبعض: هذا غلط وربما عبر إلى الجانب الغربي واعتصم بالكرخ واستجاش العوام ، والصواب أن نحمله إلى مجمع الغلمان ليدبروا أمره بما يرون ، فتسرعوا إلى رد السميرية وعلقوا بمجدافها واضطربت فدخلها الماء حتى ابتلت ثيابه وتكابوا عليه فرجموه وأخرجوه ومشوا به خطوات كثيرة ، فأعطاه الأتراك فرسه فحملوه إلى الجمع بعد أن كلموه بكل قبيح وأقاموه راكبا في الشمس زمانا وأنزلوه فوقف على عتبة الباب طويلا ثم دخل المسجد ، فوكلوا به ثم تفرقوا إلى منازلهم وجاءت صلاة الظهر وهو مشتغل بالصلاة والدعاء ثم تآمروا على نقله إلى الدار المهلبية ، فخرج القائد أبو الوفاء ومعه عشرون غلاما دارية وحواشي الدار والعامة ومن تاب من العيارين وهجم عليهم فدفعهم عنه ، واستخرجوه من أيديهم فأعاده إلى داره ، وكان ذلك في رمضان ، فنقل الملك ولده وحرمه وما بقي من ثيابه وآلاته ودوابه وفرش داره إلى الجانب الغربي بعد أن نهب الغلمان ما نهبوا من ذلك ، ثم عبر في آخر الليل إلى الكرخ ، فتلقاه أهلها بالدعاء ، فنزل في دار بدرب جميل ، وعبر الوزير المرتضى أبو القاسم بعبوره فنزل في دار تجاوره ، ثم اجتمع الغلمان وعزموا على عقد الجسر والعبور للمطالبة لأهل الكرخ بإخراج الملك عنهم ثم تشاوروا فاختلفوا ، فقال الخائفون من عقبى ما جنوا على الملك: هذا الملك قد أقل مراعاتنا والمبالاة بنا وأخذ أموالنا وتركنا جياعا ، وما ينفع فيه عذل ولا يصلحه قبيح ولا جميل ، وقد كان منا إليه ما قد علمتم أولا وأخيرا ما لا يصفو لنا معه نية منه . وقال آخرون: فما [ترون وما] الذي نفعل . وهل هاهنا من نجعله عوضا عنه وما بقي من بني بويه إلا هو وأبو كاليجار ابن أخيه قد سلم الأمر إليه ومضى إلى فارس وتنحل الأمر إلى أن كتبوا إلى الملك رقعة يقولون فيها: "نحن عبيدك ومماليكك ملكناك أمورنا ابتداء وقد ضيقت علينا مرة بعد مرة وتعدنا وتعتذر إلينا ، ولا نجد أثر ذلك ، ولك ممالك كثيرة فيجوز أن تطرح كلك عنها مدة وتوفر علينا هذه الصبابة من المادة . وهذا أمر قد اجتمعت عليه كلمتنا ، ومن الصواب أن لا تخالفنا فيه وتحوج هذا العسكر إلى تجاوز ما قد وقفوا عنده" .
وأنفذوا الرقعة إلى ليعرضها ويتنجز جوابها ، فعرضها عليه ، فأجاب: المرتضى
[ ص: 236 ]
"بأنا معترفون لكم بما ذكرتم وما يحصل لنا نصرفه إليكم ، وأما خروجنا فالأحوال التي نقاسيها تدعو إليها ولو لم تسألوه وهذه أيام صوم وحر ، وإذا انقضت انحدرنا على ما هو أجمل بنا وبكم" فلما وصل الجواب نفروا وقالوا: إنما غرضه المدافعة لينتقض ما عقدنا من غرضنا ، ولا نتركه إلا اليوم أو غدا ، فقال بعضهم: هذا لا يحسن ولكن كاتبوه ليقتصر على مدة قريبة ، فكاتبوه فأجاب: إذا قدرتم مدة قريبة يمكن إنجاز أموري في مثلها ، وندبتم من يكون في صحبتي ، وعينتم على اليوم الذي تختارونه لم أتأخر عنه ، فوصل الجواب وجمعهم أقل من كل يوم فوجموا ، وقال بعضهم لبعض: إذا خرج فعلى ما نعول بعده ، فكتبوا إليه قد شكرنا إنعام مولانا ونحن نسأل قبل الخروج أن يحلف لنا على صلاح النية ، وأن لا يريد بنا سوءا أو يرتب عندنا أحد الأمراء الأصاغر برسم النيابة عنه ثم ينحدر .
وأنفذ الملك في أثناء هذه المراجعات إلى الأصاغر يستميلهم ويعدهم ، وجاءه بعضهم ليلا فخاطبهم بما استصلحهم به فوعدوه فل هذه العزيمة ، وراسل كلا من الأكابر وأراه سكونه إليه وتعويله عليه ، والتمس حاجب الحجاب منه تجديد اليمين على سلامة الاعتقاد فيه ، وأن لا يستوزر أبا القاسم ، ففعل فاجتمعوا في مسجد القهرمانة وقال بعضهم لبعض: جلال الدولة ملكنا ونحن جنده ، وباكروا دار ودخلوا إلى الملك وقبلوا الأرض بين يديه واستصفحوا عما جرت الهفوة فيه ، وسألوه العود إلى داره ، فركب معهم إلى دار المرتضى التي [بناها] على شاطئ المرتضى دجلة ، وسكنت الثائرة ، ورضوا بالوزير أبي القاسم ، وأقام جلال الدولة مكانه حتى تكرر سؤالهم فعبر إلى داره .
وفي هذه الأيام: تبسط العامة وانتشر العيارون وقتلوا وترددوا في الكرخ حاملين السلاح . وتبعهم أصاغر المماليك ، ومضت الأيام على كبس المنازل ليلا والاستقفاء نهارا فعظمت المحنة وتعدوا إلى الجانب الشرقي ففسد ، ووقع بين عوامه من أهل باب الطاق وسوق يحيى قتال اتصل وهلك فيه جماعة ، فاجتمع الوزير وحاجب [ ص: 237 ] الحجاب على تدبير الأمور ، وقلد أبا محمد ابن النسوي البلد ، وضم إليه جماعة فطلب العيارين وشردهم ، ثم قتل رفيق لابن النسوي فخاف واستتر وخرج عن البلد . فعاد الأمر كما كان وكبس البرجمي دارا في ظهر دار في ليلة الثلاثاء لعشر بقين من شوال ، وأخذ منها شيئا كثيرا ، وصاح أهل الدار والجيران فلم يجدوا مغيثا . المرتضى
فلما كان يوم الجمعة: ثار العوام في جامع الرصافة ومنعوا من الخطبة ، ورجموا القاضي أبا الحسين بن العريف الخطيب وقالوا: إن خطبت للبرجمي وإلا فلا تخطب لخليفة ولا لملك . ثم أقيم على المعونة فركب وطاف وقتل فوقعت الرهبة ، ثم عاد واتفق أن بعض القواد أخذ أربعة من أصحاب أبو الغنائم بن علي فاعتقلهم ، فأخذ البرجمي أربعة من أصحاب ذلك القائد ، وجاء بهم وأقبل إلى دار القائد ، فطرق عليه الباب فخرج فوقف خلف الباب ، فقال له: قد أخذت أربعة من أصحابك عوضا عمن أخذته من أصحابي فإما أن تطلق من عندك لأطلق من عندي ، وإما أن أضرب رقابهم ، وأحرق دارك وانصرف وشأنك ومن عندك ، فسلم القوم إليه ، ومما يشاكل هذا الوهن أن أحد وجوه الأتراك بسوق يحيى أراد أن يختن ولدا له فأهدى إلى البرجمي حملانا وفاكهة وشرابا ، وقال: هذا نصيبك من طهر فلان ولدي . واستذم منه على داره . البرجمي
وتأخر ورود الحاج الخراسانية في هذه السنة ، وتأخر المصريون خوفا من البادية ، وخرج أهل البصرة فخفروا فغدروا بهم ونهبوهم وارتهنوهم .